روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{ٱنظُرۡ كَيۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٖۚ وَلَلۡأٓخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَٰتٖ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِيلٗا} (21)

{ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم ، والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا ، والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا العاجلة فمن وضيع ورفيع وظالع وضليع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى : { وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها .

وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الآرض ومغاربها وقد أرضى الله تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا " وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحداً ، وصح أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الحسن قال : حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان : ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل : وكان أعقلهم أيها القوم أني والله قد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم دعى القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتاً من باب هذا الذي تنافسون عليه . وفي «الكشاف » أنه قال : إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتوهم على باب عمر لما أعد الله تعالى لهم في الجنة أكبر . وقرىء { أَكْثَرَ * تَفْضِيلاً } بالثاء المثلثة ، هذا وجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط ، وحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصلهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة ووصولاً مما يوهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظوراً من أحد ممن يريد وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة الخ ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن .

وقتادة فقد روى عنهما أنهما قالا : في معنى الآية إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق ، وذكر الرزق من بين ما به الإمداد قيل على سبيل التمثيل ، وقيل تخصيص لدلالة السياق .

وجوز أن يكون المراد به معناه اللغوي فيتناول الجاه ونحوه كما يقال السعادة أرزاق ، واعتبر الجمهور عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقاً لشمول الإمداد له حيث قالوا : لا يمنعه من عاص لعصيانه . واعترض بأنه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلاً عن إيهام اختصاصه وفيه تأمل ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى { مِنْ عَطَاء رَبّكَ } من الطاعات ويمد بها مريد الآخرة والمعاصي ويمد بها مريد العاجلة فيكون العطاء عبارة عما قسم الله تعالى للعبد من خير أو شر ، وأنت تعلم أنه يبعد غاية البعد إرادة المعاصي من العطاء ولعل نبة ذلك للحبر غير صحيحة فلا تغفل . واعلم أن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معاً أو لم يرد شيئاً والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية ، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما تكون إرادة الآخرة ارجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين ، وفي قبول العمل في القسم الأول بحث عند الإمام قال : يحتمل عدم القبول لما روى عن رب العزة جل شأنه : { أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه } .

ويمكن أن يقال : إذا كانت إرادة الآخرة راجحة على إرادة الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد خالصاً للآخرة يجب كونه مقبولاً ، وإلى عدم القبول ذهب العز بن عبد السلام ، ومال إلى القول بأصل الثواب حجة الإسلام الغزالي حيث قال : لو كان إطلاع الناس مرجحاً أو مقوياً لنشاطه ولو فقد لم تترك العبادة ولو انفرد قصد الرياء لما أقدم فالذي نظنه والعلم عند الله تعالى أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب ، وهذا ظاهر في أن الرياء ولو محرماً لا يمنع أصل الثواب عنده إذا كان باعث العبادة أغلب ، وذكر ابن حجر أن الذي يتجه ترجيحه أنه متى كان المصاحب بقصد العبادة رياء مباحاً لم يقتضى إسقاط ثوابها من أصله بل يثاب على مقدار قصد العبادة وإن ضعف أو محرماً اقتضى سقوطه من أصله للاخبار ، وقوله تعالى :

{ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره } [ الزلزلة له : 7 ] قد لا يعكر على ذلك لأن تقصيره بقصد المحرم اقتضى سقوط قصد الأجر فلم تبق له ذرة من خير فلم تشمله الآية ، واتفقوا على عدم قبول ما ترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين ، وخص الغزالي الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم القبول مطلقاً بهذين القسمين ، وتمام الكلام في هذا المقام في «الزواجر » عن «اقتراف الكبائر » ، وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث والله تعالى أعلم

( ومن باب الإشارة ) :{ انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } في الدنيا بمقتضى المشيئة والحكمة { وَلَلاْخِرَةُ أَكْبَرُ درجات وَأَكْبَرُ تَفْصِيلاً } [ الإسراء : 21 ] فهناك ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر رزقنا الله تعالى وإياكم ذلك أنه سبحانه الجواد المالك .