قوله تعالى : { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم } الآية . معناه : ما كان الله ليحكم عليكم بالضلالة بترك الأوامر باستغفاركم للمشركين ، { حتى يبين لهم ما يتقون } ، يريد حتى يتقدم إليكم بالنهي ، فإذا تبين ولم تأخذوا به فعند ذلك تستحقون الضلال . قال مجاهد : بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة ، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة ، فافعلوا أو ذروا . وقال الضحاك : ما كان الله ليعذب قوما حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون . وقال مقاتل والكلبي : هذا في المنسوخ وذلك أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسملوا ، ولم تكن الخمر حراما ، ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة ، فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة ، ولا علم لهم بذلك ، ثم قدموا بعد ذلك المدينة فوجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صرفت ، فقالوا : يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن ضلال ؟ فأنزل الله تعالى : { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم } ، يعني : ما كان الله ليبطل عمل قوم قد علموا بالمنسوخ حتى يتبين لهم الناسخ . { إن الله بكل شيء عليم } .
{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }
يعني أن اللّه تعالى إذا منَّ على قوم بالهداية ، وأمرهم بسلوك الصراط المستقيم ، فإنه تعالى يتمم عليهم إحسانه ، ويبين لهم جميع ما يحتاجون إليه ، وتدعو إليه ضرورتهم ، فلا يتركهم ضالين ، جاهلين بأمور دينهم ، ففي هذا دليل على كمال رحمته ، وأن شريعته وافية بجميع ما يحتاجه العباد ، في أصول الدين وفروعه .
ويحتمل أن المراد بذلك { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ْ } فإذا بين لهم ما يتقون فلم ينقادوا له ، عاقبهم بالإضلال جزاء لهم على ردهم الحق المبين ، والأول أولى .
{ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ } فلكمال علمه وعمومه علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، وبين لكم ما به تنتفعون .
وقد ورد أنه لما نزلت الآيتان خشي الذين كانوا يستغفرون لآبائهم المشركين أن يكونوا قد ضلوا لمخالفتهم عن أمر اللّه في هذا فنزلت الآية التالية تطمئنهم من هذا الجانب ، وتقرر القاعدة الإسلامية : أنه لا عقوبة بغير نص ؛ ولا جريمة بغير بيان سابق على الفعل :
( وما كان اللّه ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون . إن اللّه بكل شيء عليم ) .
إن اللّه لا يحاسب الناس إلا على ما بين لهم أن يتقوه ويحذروه ولا يأتوه . وليس من شأنه أن يذهب بهدى قوم بعد إذ هداهم ويكلهم إلى الضلال لمجرد الفعل ، ما لم يكن هذا الفعل مما نهاهم عنه قبلا . . ذلك أن الإنسان قاصر واللّه هو العليم بكل شيء . ومنه البيان والتعليم .
ولقد جعل اللّه هذا الدين يسراً لا عسراً ، فبين ما نهى عنه بياناً واضحاً ، كما بين ما أمر به بياناً واضحاً . وسكت عن أشياء لم يبين فيها بياناً - لا عن نسيان ولكن عن حكمة وتيسير - ونهى عن السؤال عما سكت عنه ، لئلا ينتهي السؤال إلى التشديد . ومن ثم فليس لأحد أن يحرم شيئاً من المسكوت عنه ، ولا أن ينهى عما لم يبينه اللّه . تحقيقاً لرحمة اللّه بالعباد . .
يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل : إنه لا يضل قوما بعد بلاغ{[13941]} الرسالة إليهم ، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة ، كما قال تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } الآية [ فصلت : 17 ] .
وقال مجاهد في قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } قال : بيان الله ، عز وجل ، للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة ، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة ، فافعلوا أو ذَروا .
وقال ابن جرير : يقول الله تعالى : وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا ، فأما قبل أن يبين لكم كراهيته{[13942]} ذلك بالنهي عنه ، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه ، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال ، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي ، وأما من لم يُؤمَر ولم يُنْهَ فغير كائن مطيعا أو عاصيًا فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه .
{ وما كان الله ليضل قوما } أي ليسميهم ضُلاّلاً ويؤاخذه مؤاخذتهم { بعد إذ هداهم } للإسلام . { حتى يبين لهم ما يتقون } حتى يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه ، وكأنه بيان عذر الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله لعمه أو لمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع . وقيل إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر ونحو ذلك ، وفي الجملة دليل على أن الغافل غير مكلف . { إن الله بكل شيء عليم } فيعلم أمرهم في الحالين .
وقوله تعالى : { وما كان الله ليضل قوماً } الآية معناه التأنيس للمؤمنين ، وقيل : إن بعضهم خاف على نفسه من الاستغفار للمشركين دون أمر من الله تعالى فنزلت الآية مؤنسة ، أي ما كان الله بعد أن هدى إلى الإسلام وأنقذ من النار ليحبط ذلك ويضل أهله لمواقعتهم ذنباً لم يتقدم منه نهي عنه ، فأما إذا بين لهم ما يتقون من الأمور ويتجنبون من الأشياء فحينئذ من واقع بعد النهي استوجب العقوبة ، وقيل : إن هذه الآية إنما نزلت بسبب قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا غيباً فحولت القبلة فصلوا قبل أن يصلهم ذلك إلى بيت المقدس ، وآخرين شربوا الخمر بعد تحريمها قبل أن يصل إليهم ، فخافوا على أنفسهم وتكلموا في ذلك فنزلت الآية ، والقول الأول أصوب وأليق بالآية .