قوله تعالى : { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } ، روى الضحاك عن ابن عباس : أن قوم نوح عليه السلام كانوا يضربون نوحا حتى يسقط ، فيلقونه في لبد ، ويلقونه في قعر بيت ، ويظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله عز وجل . روي أن شيخا منهم جاء يتوكأ على عصا ، ومعه ابنه ، فقال : يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون ، فقال له : يا أبت أمكني من العصا ، فأخذ العصا من أبيه ، فضرب نوحا حتى شجه شجة منكرة ، فأوحى الله عز وجل إليه : { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } ، { فلا تبتئس } أي : فلا تحزن ، { بما كانوا يفعلون } ، فإني مهلكهم ومنقذك منهم فحينئذ دعا نوح عليهم : فقال { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } [ نوح-26 ] . وحكى محمد بن إسحاق عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه . أنهم كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ، حتى إذا تمادوا في المعصية واشتد عليهم من البلاء ، وانتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي قبله حتى إن كان الآخر منهم ليقول : قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنونا لا يقبلون منه شيئا ، فشكا إلى الله تعالى فقال : { رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا } إلى أن قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } .
ثم يمضي السياق في قصة نوح ؛ يعرض مشهدا ثانيا . مشهد نوح يتلقى وحي ربه وأمره :
وأوحي إلى نوح انه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن . فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، ولا تخاطبني في الذين ظلموا ، إنهم مغرقون . .
فقد انتهى الإنذار ، وانتهت الدعوة ، وانتهى الجدل !
( وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) . .
فالقلوب المستعدة للإيمان قد آمنت ، أما البقية فليس فيها استعداد ولا اتجاه . هكذا أوحى الله إلى نوح ، وهو أعلم بعباده ، وأعلم بالممكن والممتنع ، فلم يبق مجال للمضي في دعوة لا تفيد . ولا عليك مما كانوا يفعلونه من كفر وتكذيب وتحد واستهزاء :
( فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ) . .
أى لا تحس بالبؤس والقلق ، ولا تحفل ولا تهتم بهذا الذي كان منهم ، لا على نفسك فما هم بضاريك بشيء ، ولا عليهم فإنهم لا خير فيهم .
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نُوح لما استعجل قومُه نقمة الله بهم وعذابه لهم ، فدعا عليهم نوحُ دعوته التي قال الله تعالى{[14583]} مخبرًا عنه أنه قال : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [ نوح : 26 ] ، { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ } [ القمر : 10 ] ، فعند ذلك أوحى الله تعالى إليه : { أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ } فلا تحزن عليهم ولا يَهُمَّنك أمرهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَىَ نُوحٍ أَنّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأَوْحَى الله إلى نوح لما حقّ على قومه القول ، وأظلهم أمر الله ، أنّهُ لَنْ يُؤْمِنُ : يا نوح بالله فيوحده ويتبعك على ما تدعوه إليه مِنْ قَوْمِكَ إلاّ مَنْ قَدْ آمَن فصدّق بذلك واتبعك . فَلا تَبْتَئِسْ يقول : فلا تستِكنْ ولا تحزن بما كانوا يفعلون ، فإني مهلكهم ومنقذك منهم ومَنِ اتبعك . وأوحي الله ذلك إليه بعد ما دعا عليهم نوح بالهلاك ، فقال : رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا وهو تفتعل من البؤس ، يقال : ابتأس فلان بالأمر يبتئس ابتئاسا ، كما قال لبيد بن ربيعة :
فِي مَأْتَمٍ كَنِعاجِ صَا *** رَةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا لَقِينا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَلا تَبْتَئِسْ قال : لا تحزن .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كانُوا يَفْعَلُونَ يقول : فلا تحزن .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كانُوا يَفْعَلُونَ قال : لا تَأْسَ ولا تحزن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأُوحِيَ إلى نُوحٍ أنّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ وذلك حين دعا عليهم قالَ رَبّ لا تَذَرْ على الأرْضِ مِنَ الكافِرِينَ دَيّارا . قوله : فَلا تَبْتَئِسْ يقول : فلا تأس ولا تحزن .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمكَ إلاّ مَنْ قَدْ آمَنَ فحينئذ دعا على قومه لما بين الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن .
عطف على جملة { قالوا يا نوح قد جادلتنا } [ هود : 32 ] أي بعد ذلك أوحي إلى نوح عليه السّلام { أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن } .
واسم ( أن ) ضمير الشأن دال على أن الجملة بعده أمرهم خطير لأنها تأييس له من إيمان بقية قومه كما دل حرف { لن } المفيد تأبيد النفي في المستقبل ، وذلك شديد عليه ولذلك عقب بتسليته بجملة { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } فالفاء لتفريع التسلية على الخبر المحزن .
والابتئاس افتعال من البؤس وهو الهم والحزن ، أي لا تحزن .
ومعنى الافتعال هنا التأثر بالبؤس الذي أحدثه الخبر المذكور . { بما كانوا يفعلون } هو إصرارهم على الكفر واعتراضهم عن النظر في الدعوة إلى وقت أن أوحي إليه هذا . قال الله تعالى حكاية عنه : { فلم يزدهم دعائي إلاّ فِراراً وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً } [ نوح : 6 ، 7 ] .
وتأكيد الفعل ب { قَد } في قوله : { من قَد آمن } للتنصيص على أن المراد من حصل منهم الإيمان يقيناً دون الذين ترددوا .