اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُۥ لَن يُؤۡمِنَ مِن قَوۡمِكَ إِلَّا مَن قَدۡ ءَامَنَ فَلَا تَبۡتَئِسۡ بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ} (36)

قوله تعالى : { وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ } الجمهور على " أوحِيَ " مبنياً للمفعول ، والقائمُ مقام الفاعل { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ } أي : أوحِيَ إليه عدمُ إيمان بعض القوم .

وقرأ أبو{[18776]} البرهسم " أوْحَى " مبنياً للفاعل وهو الله - سبحانه وتعالى - ، " إنَّهُ " بكسر الهمزة وفيها وجهان :

أحدهما : - وهو أصلٌ للبصريين - أنَّهُ على إضمار القول .

والثاني : - وهو أصلُ للكوفيين - أنَّهُ على إجراء الإيحاء مُجْرَى القول .

قوله " فَلاَ تَبْتَئِسْ " هو تفتعل من البُؤسِ ، ومعناه الحزنُ في استكانة ، ويقال : ابتأسَ فلانٌ ، أي : بلغه ما يكرهه ؛ قال : [ البسيط ]

مَا يَقْسِمِ اللهُ أقْبَلَ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ *** مِنْهُ وأقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ البَالِ{[18777]}

وقال آخر : [ البسيط ]

وكَمْ مِنْ خَليلٍ أوْ حَميمٍ رُزِئْتُهُ *** فَلَمْ نَبْتَئِسْ والرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلِ{[18778]}

فصل

دلَّت هذه الآية على صحة القول بالقضاءِ والقدرِ ؛ لأنَّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك ، فلو حصل إيمانهم ؛ لكان إمَّا مع بقاءِ هذا الخبر صدقاً ، ومع بقاء هذا العلم علماً ، أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلابِ هذا العلم جهلاً .

والأولُ باطلٌ ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدمِ الإيمانِ صدقاً ، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمعٌ بين النَّقيضين .

والثاني أيضاً باطلٌ ؛ لأنَّ انقلاب علم الله - تعالى - جهلاً وخبره كذباً محال ، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدَّ وأن يكون على أحد هذين القسمين ، وثبت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محالٌ كان صدور الإيمان منهم محالاً ، مع أنَّهم كانوا مأمورين به ، وأيضاً : فالقومُ كانُوا مأمورين بالإيمان ، ومن الإيمان تصديق الله تعالى - في كُلِّ ما أخبر عنه ، وقد أخبر أنَّهُ { . . . لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } فينبغي أن يقال : إنَّهم كانُوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنَّهم لا يؤمنون ألبتة ، وذلك تكليفٌ بالجمع بين النَّقيضين .


[18776]:ينظر: المحرر الوجيز 3/168 والبحر المحيط 5/221 والدر المصون 4/897.
[18777]:البيت لحسان بن ثابت ينظر: ديوانه (147) والبحر 5/221 واللسان "بأس" والتفسير الكبير للرازي 17/221 معجم مقاييس اللغة (بأس) وشواهد الكشاف 2/489 والتهذيب 13/108 والكشاف 2/193 والدر المصون 4/97.
[18778]:ينظر البيت في البحر المحيط 5/221 والقرطبي 9/21 واللسان (رزأ) والدر المصون 4/97.