فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه ، ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم ، وهو أن يقولوا : { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } والإيمان يشمل التصديق الباطن ، والأعمال الباطنة والظاهرة ، ولما كانت الأعمال ، وجودها وكمالها ، متوقفة على التوكل ، خص الله التوكل من بين سائر الأعمال ، وإلا فهو داخل في الإيمان ، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه ، وهي الحال التي تتعين للفلاح ، وتتوقف عليها السعادة ، وحالة أعدائه بضدها ، فلا إيمان [ لهم ] ولا توكل ، علم بذلك من هو على هدى ، ومن هو في ضلال مبين .
ثم يترقى من هذه التسوية بين الأمرين ، إلى تقرير موقف المؤمنين من ربهم وثقتهم به وتوكلهم عليه ، مع التلميح إلى اطمئنانهم لأيمانهم ، وثقتهم بهداهم ، وبأن الكافرين في ضلال مبين .
( قل : هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا . فستعلمون من هو في ضلال مبين ) . .
وذكر صفة( الرحمن )هنا يشير إلى رحمته العميقة الكبيرة برسوله والمؤمنين معه ؛ فهو لن يهلكهم كما يتمنى الكافرون أو كما يدعون .
ويوجه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إلى إبراز الصلة التي تربطهم بربهم الرحمن . صلة الإيمان ( آمنا به ) . . وصلة التوكل ( وعليه توكلنا ) . . عليه وحده . . والتعبير يشي بالقربى بينهم وبين الرحمن . والله - سبحانه - هو الذي يتفضل على رسوله وعلى المؤمنين فيأذن له بإعلان هذه القربى ، ويوجهه إلى هذا الإعلان . وكأنما ليقول له : لا تخف مما يقوله الكفار . فأنت ومن معك موصولون بي منتسبون إلي . وأنت مأذون مني في أن تظهر هذه الكرامة ، وهذا المقام ! فقل لهم . . . وهذا ود من الله وتكريم . .
ثم ذلك التهديد الملفوف : ( فستعلمون من هو في ضلال مبين ) . . وهو أسلوب كذلك من شأنه أن يخلخل الإصرار على الجحود ؛ ويدعوهم إلى مراجعة موقفهم مخافة أن يكونوا هم الضالين ! فيتعرضوا للعذاب الذي سبق ذكره في الآية : ( فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ? )وفي الوقت ذاته لا يجبههم بأنهم ضالون فعلا ، حتى لا تأخذهم العزة بالإثم . وهو أسلوب في الدعوة يناسب بعض حالات النفوس . .
ثم قال : { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } أي : آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم ، وعليه توكلنا في جميع أمورنا ، كما قال : { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] . ولهذا قال : { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : منا ومنكم ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الرّحْمََنُ آمَنّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد : ربنا الرّحْمَنُ آمَنّا بِهِ يقول : صدّقنا به وَعَلَيْهِ تَوَكّلْنا يقول : وعليه اعتمدنا في أمورنا ، وبه وثقنا فيها . { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } يقول : فستعلمون أيها المشركون بالله الذي هو في ذهاب عن الحقّ ، والذي هو على غير طريق مستقيم منا ومنكم إذا صرنا إليه ، وحشرنا جميعا .
هذا تكرير ثالث لفعل { قل } من قوله : { قل هو الذي أنشأكم } [ الملك : 23 ] الآية .
وجاء هذا الأمر بقول يقوله لهم بمناسبة قوله : { أو رحمنا } [ الملك : 28 ] فإنه بعد أن سوَّى بين فرض إهلاك المسلمين وإحيائهم في أن أيّ الحالين فُرض لا يجيرهم معه أحد من العذاب ، أعقبه بأن المسلمين آمنوا بالرحمان ، فهم مظنة أن تتعلق بهم هذه الصفة فيرحمهم الله في الدنيا والآخرة ، فيعلم المشركون علم اليقين أيّ الفريقين في ضلال حين يرون أثر الرحمة على المسلمين وانتفاءه عن المشركين في الدنيا وخاصة في الآخرة .
وضميرُ { هو } عائد إلى الله تعالى الواقع في الجملة قبله ، أي الله هو الذي وَصْفُه { الرحمان } فهو يرحمنا ، وأنكم أنكرتم هذا الاسم فأنتم أحرياء بأن تُحرَموا آثار رحمته . ونحن توكلنا عليه دون غيره وأنتم غرّكم عزّكم وجعلتم الأصنام معتمدكم ووكلاءكم .
وبهذه التوطئة يقع الإيماء إلى الجانب المهتدي والجانب الضالّ من قوله : { فستعلمون من هو في ضلال مبين } لأنه يظهر بداءً تأمل أن الذين في ضلال مبين هم الذين جحدوا وصف { الرحمان } وتوكلوا على الأوثان .
و { مَن } موصولة ، وما صْدَقُ { مَن } فريق مُبهم متردد بين فريقين تضمنهما قوله : { إن أهلكني الله ومَن معي } [ الملك : 28 ] وقوله : { فمن يجير الكافرين } [ الملك : 28 ] ، فأحد الفريقين فريق النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه ، والآخر فريق الكافرين ، أي فستعلمون اتضاح الفريق الذي هو في ضلال مبين .
وتقديم معمول { توكلنا } عليه لإفادة الاختصاص ، أي توكلنا عليه دون غيره تعريضاً بمخالفة حال المشركين إذ توكلوا على أصنامهم وأشركوها في التوكل مع الله ، أو نَسُوا التوكل على الله باشتغال فكرتهم بالتوجه إلى الْاصنام .
وإنما لم يقدم معمول { آمنَّا } عليه فلم يقل : به آمنا لمُجرد الاهتمام إلى الإِخبار عن إيمانهم بالله لوقوعه عقب وصف الآخرين بالكفر في قوله : { فمن يجير الكافرين من عذاب أليم } [ الملك : 28 ] فإن هذا جواب آخر عن تمنّيهم له الهلاك سُلك به طريق التبكيت ، أي هو الرحمان يجيرنا من سوء ترومونه لنا لأننا آمنا به ولم نكْفر به كما كفرتم ، فلم يكن المقصود في إيراده نفي الإِشراك وإثبات التوحيد ، إذ الكلام في الإِهلاك والإنجاء المعبّر عنه ب { رَحِمنَا } [ الملك : 28 ] فجيء بجملة { ءامنا } على أصل مجرد معناها دون قصد الاختصاص ، بخلاف قوله : { وعليه توكلنا } لأن التوكل يقتضي منجياً وناصراً ، والمشركون متوكلون على أصنامهم وقوتهم وأموالهم ، فقيل : نحن لا نتكل على ما أنتم متكلون عليه ، بل على الرحمان وحده توكلنا .
وفعل { فستعلمون } معلق عن العمل لمجيء الاستفهام بعده .
وقرأ الجمهور { فستعلمون } بتاء الخطاب على أنه مما أمر بقوله الرسول صلى الله عليه وسلم وقرأه الكسائي بياء الغائب على أن يكون إخباراً من الله لرسوله بأنه سيعاقبهم عقاب الضالّين .