والمرعى يخرج في أول أمره خضرا ، ثم يذوي فإذا هو غثاء ، أميل إلى السواد فهو أحوى ، وقد يصلح أن يكون طعاما وهو أخضر ، ويصلح أن يكون طعاما وهو غثاء أحوى . وما بينهما فهو في كل حالة صالح لأمر من أمور هذه الحياة ، بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى .
والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي ، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية . وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى . . . ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) . . والحياة الدنيا كهذا المرعى ، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى . . والآخرة هي التي تبقى .
وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة . . تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها ، بهذا الوجود ؛ ويتصل الوجود بها ، في هذا الإطار العريض الجميل . والملحوظ أن معظم السور في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار . الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقا كاملا .
{ فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى } قال ابن عباس : هشيما متغيرا . وعن مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد ، نحوه .
قال ابن جرير : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب{[29970]} يرى أن ذلك من المؤخر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى ، أي : أخضر إلى السواد ، فجعله غثاء بعد ذلك . ثم قال ابن جرير : وهذا وإن كان محتملا إلا أنه غير صواب ؛ لمخالفته أقوال أهل التأويل .
وقوله : فَجَعَلَهُ غُثاءً أحْوَى يقول تعالى ذكره : فجعل ذلك المرعَى غُثاء ، وهو ما جفّ من النبات ويبس ، فطارت به الريح وإنما عُنِي به هاهنا أنه جعله هشيما يابسا متغيرا إلى الحُوّة ، وهي السواد ، من بعد البياض أو الخُضرة ، من شدّة اليبس . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : غُثاءً أحْوَى يقول : هَشيما متغيرا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : غُثاءً أحْوَى قال : غُثاء السيل أحوى ، قال : أسود .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : غُثاءً أحْوَى قال : يعود يبسا بعد خُضرة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَجَعَلَهُ غُثاءً أحْوَى قال : كان بقلاً ونباتا أخضر ، ثم هاج فيبُس ، فصار غُثاء أحوى ، تذهب به الرياح والسيول .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يرى أن ذلك من المؤخّر الذي معناه التقديم ، وأن معنى الكلام : والذي أخرج المرعى أحوى : أي أخضر إلى السواد ، فجعله غثاء بعد ذلك ، ويعتلّ لقوله ذلك بقول ذي الرّمة :
حَوّاءُ قَرْحاءُ أشْراطِيّةُ وكَفَتْ *** فِيها الذّهابُ وحَفّتْها البَرَاعِيمُ
وهذا القول وإن كان غير مدفوع أن يكون ما اشتدّت خضرته من النبات ، قد تسميه العرب أسود ، غير صواب عندي بخلافه تأويل أهل التأويل في أن الحرف إنما يحتال لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير إذا لم يكن له وجه مفهوم إلاّ بتقديمه عن موضعه ، أو تأخيره ، فإما وله في موضعه وجه صحيح فلا وجه لطلب الاحتيال لمعناه بالتقديم والتأخير .
و «الغثاء » ما يبس وجف وتحطم من النبات ، وهو الذي يحمله السيل ، وبه يشبه الناس الذين لا قدر لهم ، و «الأحوى » : قيل هو الأخضر الذي عليه سواد من شدة الخضرة والغضارة ، وقيل هو الأسود سواداً يضرب إلى الخضرة ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]
لمياء في شفتيها حوّة لعس . . . وفي اللثاث وفي أنيابها شنب{[11748]}
قال قتادة : تقدير هذه الآية { أخرج المرعى } ، { أحوى } أسود من خضرته ونضارته ، { فجعله غثاء } عند يبسه ، ف { أحوى } حال ، وقال ابن عباس : المعنى { فجعله غثاء أحوى } أي أسود ، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار { أحوى } بهذه الصفة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فجعل ذلك المرعَى غُثاء ، وهو ما جفّ من النبات ويبس ، فطارت به الريح وإنما عُنِي به هاهنا أنه جعله هشيما يابسا متغيرا إلى الحُوّة ، وهي السواد ، من بعد البياض أو الخُضرة ، من شدّة اليبس . ...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «الغثاء » ما يبس وجف وتحطم من النبات ، وهو الذي يحمله السيل ، وبه يشبه الناس الذين لا قدر لهم ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان إيباسه وتسويده بعد اخضراره ونموه في غاية الدلالة على تمام القدرة وكمال الاختيار بمعاقبة الأضداد على الذات الواحدة قال تعالى : { فجعله } أي بعد أطوار من زمن إخراجه { غثاء } أي كثيراً ، ثم أنهاه فأيبسه وهشمه ومزقه فجمع السيل بعضه إلى بعض فجعله زبداً وهالكاً وبالياً وفتاتاً على وجه الأرض ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي ، بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية . وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى . . . ( بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى ) . . والحياة الدنيا كهذا المرعى ، الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى . . والآخرة هي التي تبقى . ... وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة . . تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها ، بهذا الوجود ؛ ويتصل الوجود بها ، في هذا الإطار العريض الجميل . والملحوظ أن معظم السور في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار . الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقا كاملا . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفي وصف إخراج الله تعالى المرعى وجعله غُثاء أحوى مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام إيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث الذي يَنبت به المرعَى فتنتفع به الدواب والأنعام ، وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل المرعَى ويبلغ نُضجه حين يصير غثاء أحوى ، على طريقة تمثيلية مكنية رُمز إليها بذكر لازم الغيث وهو المرعى . ... وقد جاء بيان هذا الإِيماء وتفصيله بقول النبي صلى الله عليه وسلم « مثل ما بَعَثني الله به من الهُدى والعِلم كمثَل الغيث الكثير أصابَ أرضاً فكان منها نَقِيُّةٌ قَبِلَتْ الماء فأنبتت الكلأ والعُشُبَ الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس فشربوا وسَقوا وزرعوا » الحديث . ... ويجوز أن يكون المقصود من جملة : { فجعله غثاء أحوى } إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله في المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى : { اللَّه الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير } [ الروم : 54 ] للإِشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة ، فاستعير لعطف { جعله غثاء } الحرفُ الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف بعدَ زمن قريب من زمن حصول المعطوف عليه ، ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى : { إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام } إلى قوله : { فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس } [ يونس : 24 ] . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فيتحوّل إلى أوراقٍ يابسةٍ وأغصان ذابلة ، وتزول كل تلك الحيويّة النضرة في الألوان المتنوعة ، فإذا هو أميل إلى السواد ، فهو أحوى . ويبلغ التقدير الإلهي مداه في ذلك كله لينتظر العودة إلى حركته في فصول جديدةٍ ورحلة جديدةٍ للنموّ والحياة الخضراء . وفي هذا إشارةٌ خفيّةٌ للتدبير الإلهي في إبداع الإنسان في إخراجه إلى الحياة ثمَّ في تحوّله إلى شيءٍ ميّتٍ . . ثم إلى تراب . . ثم تبدأ رحلة الحياة من جديد ولكن في عالم آخر . . ...