ثم ذكر جزاء الكافرين بعدما جاءتهم البينة ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } قد أحاط بهم عذابها ، واشتد عليهم عقابها ، { خَالِدِينَ فِيهَا } لا يفتر عنهم العذاب ، وهم فيها مبلسون ، { أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ } لأنهم عرفوا الحق وتركوه ، وخسروا الدنيا والآخرة .
فأما وقد جاءتهم البينة من قبل في دياناتهم على أيدي رسلهم ؛ ثم جاءتهم البينة ، حية في صورة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ؛ ويقدم لهم عقيدة ، واضحة بسيطة ميسرة ، فقد تبين الطريق . ووضح مصير الذين يكفرون والذين يؤمنون :
( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . رضي الله عنهم ورضوا عنه ، ذلك لمن خشي ربه ) . .
إن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] هو الرسول الأخير ؛ وإن الإسلام الذي جاء به هو الرسالة الأخيرة . وقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض لترد الناس إلى الصلاح . وكانت هناك فرصة بعد فرصة ومهلة بعد مهلة ، لمن ينحرفون عن الطريق فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة الشاملة الكاملة ، فقد تحددت الفرصة الأخيرة ، فإما إيمان فنجاة ، وإما كفر فهلاك . ذلك أن الكفر حينئذ دلالة على الشر الذي لا حد له ، وأن الإيمان دلالة على الخير البالغ أمده .
( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . أولئك هم شر البرية )حكم قاطع لا جدال فيه ولا محال . مهما يكن من صلاح بعض أعمالهم وآدابهم ونظمهم ما دامت تقوم على غير إيمان ، بهذه الرسالة الأخيرة ، وبهذا الرسول الأخير . لا نستريب في هذا الحكم لأي مظهر من مظاهر الصلاح ، المقطوعة الاتصال بمنهج الله الثابت القويم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلََئِكَ هُمْ شَرّ الْبَرِيّةِ * إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ أُوْلََئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين كفروا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوّته ، من اليهود والنصارى والمشركين جميعهم { فِي نارِ جَهَنّمَ خالِدِينَ فيها } يقول : ماكثين ، لابثين فيها أبَدا لا يخرجون منها ، ولا يموتون فيها { أُولَئكَ هُمْ شَرّ البَرِيّةِ } يقول جلّ ثناؤه : هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، هم شرّ من بَرأَه الله وخلقه ، والعرب لا تهمز البرية ، وبترك الهمز فيها قَرَأتها قرّاء الأمصار ، غير شيء يُذكر عن نافع بن أبي نعيم ، فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها ، وذهب بها إلى قول الله : { مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرأَها } وأنها فعيلة من ذلك . وأما الذين لم يهمزوها ، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين : أحدهما أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من المَلَك ، وهو مفعل من ألك أو لأك ، ومن يرى ، وترى ، ونرى ، وهو يفعل من رأيت . والآخر : أن يكونوا وجّهوها إلى أنها فعيلة من البَرَى وهو التراب . حُكي عن العرب سماعا : بفيك البَرَى ، يعني به : التراب .
حكم الله في هذه الآية بتخليد الكافرين من { أهل الكتاب والمشركين } وهم عبدة الأوثان في النار وبأنهم { شر البريّة } ، و { البريّة } جميع الخلق ؛ لأن الله تعالى برأهم أو أوجدهم بعد العدم ، وقرأ نافع وابن عامر والأعرج : «البريئة » بالهمز من برأ ، وقرأ الباقون والجمهور : «البريّة » بشد الياء بغير همز على التسهيل ، والقياس الهمز إلا أن هذا مما ترك همزة كالنبي والذرية ، وقرأ بعض النحويين : «البرية » مأخوذ من البراء وهو التراب ، وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ وغطاً وهو اشتقاق غير مرضي .