قوله تعالى :{ وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } يعني : التوراة والإنجيل ، { ولو ترى } يا محمد ، { إذ الظالمون موقوفون } محبوسون ، { عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول } يرد بعضهم إلى بعض القول في الجدال ، { يقول الذين استضعفوا } استحقروا وهم الأتباع ، { للذين استكبروا } وهم القادة والأشراف ، { لولا أنتم لكنا مؤمنين } أي : أنتم منعتمونا عن الإيمان بالله ورسوله .
{ 31 - 33 } { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
لما ذكر تعالى أن ميعاد المستعجلين بالعذاب ، لا بد من وقوعه عند حلول أجله ، ذكر هنا حالهم في ذلك اليوم ، وأنك لو رأيت حالهم إذا وقفوا عند ربهم ، واجتمع الرؤساء والأتباع في الكفر والضلال ، لرأيت أمرا عظيما وهولا جسيما ، ورأيت كيف يتراجع ، ويرجع بعضهم إلى بعض القول ، ف { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا } وهم الأتباع { لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم القادة : { لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } ولكنكم حُلْتُم بيننا وبين الإيمان ، وزينتم لنا الكفر[ ان ] ، فتبعناكم على ذلك ، ومقصودهم بذلك أن يكون العذاب على الرؤساء دونهم .
( وقال الذين كفروا : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) . .
فهو العناد والإصرار ابتداء على رفض الهدى في كل مصادره . لا القرآن ، ولا الكتب التي سبقته ، والتي تدل على صدقه . فلا هذا ولا ذاك هم مستعدون للإيمان به لا اليوم ولا الغد . ومعنى هذا أنهم يصرون على الكفر ، ويجزمون عن قصد بأنهم لن ينظروا في دلائل الهدى كائنة ما كانت . فهو العمد إذن وسبق الإصرار !
عندئذ يجبههم بمشهدهم يوم القيامة ، وفيه جزاء هذا الإصرار :
( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم ، يرجع بعضهم إلى بعض القول ، يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : لولا أنتم لكنا مؤمنين ! قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى ، بعد إذ جاءكم ? بل كنتم مجرمين ! وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً . . وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ؛ وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .
ذلك كان قولهم في الدنيا : ( لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) . . فلو ترى قولهم في موقف آخر . لو ترى هؤلاء الظالمين وهم( موقوفون )على غير إرادة منهم ولا اختيار ؛ إنما هم مذنبون بالوقوف في انتظار الجزاء ( عند ربهم ) . . ربهم الذي يجزمون بأنهم لن يؤمنوا بقوله وكتبه . ثم ها هم أولاء موقوفون عنده ! لو ترى يومئذ لرأيت هؤلاء الظالمين يلوم بعضهم بعضاً ، ويؤنب بعضهم بعضاً ، ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض : ( يرجع بعضهم إلى بعض القول ) . . فماذا يرجعون من القول ?
( يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : لولا أنتم لكنا مؤمنين ) . .
فيلقون على الذين استكبروا تبعة الوقفة المرهوبة المهينة ، وما يتوقعون بعدها من البلاء ! يقولون لهم هذه القولة الجاهرة اليوم ؛ ولم يكونوا في الدنيا بقادرين على مواجهتهم هذه المواجهة . كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام ، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم ، والكرامة التي منحها إياهم ، والإدراك الذي أنعم به عليهم . أما اليوم وقد سقطت القيم الزائفة ، وواجهوا العذاب الأليم ، فهم يقولونها غير خائفين ولا مبقين ! ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لَن نّؤْمِنَ بِهََذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىَ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَقَالَ الّذِينَ كَفَروا من مشركي العرب : لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرآنِ الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا بالكتاب الذي جاء به غيره من بين يديه ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرآنِ وَلا بالّذِي بينَ يَدَيْهِ قال : قال المشركون : لن نؤمن بهذا القرآن ، وَلا بالّذِي بينَ يَدَيْهِ من الكتب والأنبياء .
وقوله : وَلَوْ تَرَى إذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبّهِمْ يتلاومون ، يحاور بعضهم بعضا ، يقول المستضعفون في الدنيا للذين كانوا عليهم فيها يستكبرون : لولا أنتم أيها الرؤساء والكبراء في الدْنيا لكنا مؤمنين بالله وآياته .
حكيت في هذه الآية مقالة قالها بعض قريش وهي أنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بما بين يديه من التوراة والإنجيل والزبور فكأنهم كذبوا بجميع كتب الله وإنما فعلوا هذا لما وقع الاحتجاج عليهم بما في التوراة من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقالت فرقة : «الذي بين يديه » هي الساعة والقيامة .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا خطأ قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة وأنه المتقدم في الزمان وقد بيناه فيما تقدم ، ثم أخبر الله تعالى نبيه عن حالة الظالمين في صيغة التعجيب من حالهم ، وجواب { لو } محذوف ، وقوله { يرجع بعضهم إلى بعض القول } أي يرد ، أي يتحاورون ويتجادلون .
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بين يديه } .
كان المشركون لما فاجأتهم دعوة الإِسلام وأخَذ أمره في الظهور قد سلكوا طرائق مختلفة لقمع تلك الدعوة ، وقد كانوا قبل ظهور الإِسلام لاَهِينَ عن الخوض فيما سلف من الشرائع فلما قرعت أسماعهم دعوة الإِسلام اضطربت أقوالهم : فقالوا : { ما أنزل الله على بشر من شيء } [ الأنعام : 91 ] ، وقالوا غيرَ ذلك ، فمن ذلك أنهم لجأَوا إلى أهل الكتاب وهم على مقربة منهم بالمدينة وخيبر وقريظة ليَتَلقَّوا منهم ملقَّنَات يفحمون بها النبي صلى الله عليه وسلم فكان أهل الكتب يُمْلُون عليهم كلما لَقُوهم ما عساهم أن يُمَوِّهُوا على الناس عدم صحة الرسالة المحمدية ، فمرة يقولون : { لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } [ القصص : 48 ] ، ومرة يقولون : { لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] ، وكثيراً ما كانوا يحسبون مساواته للناس في الأحوال البشرية منافية لكونه رسولاً إليهم مختاراً من عند الله فقالوا : { ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 17 ] وإلى قوله : { هل كنت إلا بشراً رسولاً } [ الإسراء : 93 ] ، وهم لا يُحاجُّون بذلك عن اعتقاد بصحة رسالة موسى عليه السلام ولكنهم يجعلونه وسيلة لإِبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلما دمغتهم حجج القرآن العديدة الناطقة بأن محمداً ما هو بِدْعٌ من الرسل وأنه جاء بمثل ما جاءت به الرسل فحاجَّهم بقوله : { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين } [ القصص : 49 ] الآية . فلما لما يجدوا سبيلاً للمكابرة في مساواة حاله بحال الرسل الأولين وأوَوْا إلى مأْوى الشرك الصريح فلجأُوا إلى إنكار رسالة الرسل كلهم حتى لا تنهض عليهم الحجة بمساواة أحوال الرسول وأحوال الرسل الأقدمين فكان من مستقر أمرهم أن قالوا : { لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } .
وقد كان القرآن حاجَّهم بأنهم كفروا { بما أوتي موسى من قبل } كما في سورة القصص ( 48 ) ، أي كفر أمثالهم من عَبدة الأصنام وهم قِبط مصر بما أوتي موسى وهو من الاستدلال بقياس المساواة والتمثيل .
فهذا وجه قولهم : { ولا بالذي بين يديه } لأنهم لم يكونوا مدْعُوِّين لا يؤمنوا بكتاب آخر غير القرآن ولكن جرى ذلك في مجاري الجدال والمناظرة فعدم إيمانهم بالقرآن مشهور معلوم وإنما أرادوا قطع وسائل الإِلزام الجدلي .
وهذه الآية انتقال إلى ذكر طعن المشركين في القرآن وهي معطوفة على جملة { ويقولون متى هذا الوعد } [ سبأ : 29 ] .
والاقتصار على حكاية مقالتهم دون تعقيب بما يبطلها إيماء إلى أن بطلانها بادٍ لكل مَنْ يسمعها حيث جمعت التكذيب بجميع الكتب والشرائع وهذا بهتان واضح .
وحكاية مقالتهم هذه بصيغة الماضي تؤذن بأنهم أقلعوا عنها .
وجيء بحرف { لن } لتأكيد نفي إيمانهم بالكتب المنزلة على التأبيد تأييساً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الطمع في إيمانهم به .
واسم الإِشارة مشار به إلى حاضر في الأذهان لأن الخوض في القرآن شائع بين الناس من مؤيد ومنكر فكأنه مشاهدَ . وليس في اسم الإِشارة معنى التحقير لأنهم ما كانوا ينبزون القرآن بالنقصان ، أَلا ترى إلى قول الوليد بن المغيرة : « إن أعلاه لمُثْمِر وإن أسفله لَمُغْدق » ، وقول عبد الله بن أُبيّ بعد ذلك : « لاَ أحسن مما تقول أيها المرء » ، وأن عتبة بن ربيعة لما قرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وقال له : " هل ترى بما أقول بأساً ؟ " فقال : « لا والدِّماء » . وكيف وقد تحداهم الإِتيان بسورة مثله فلم يفعلوا ، ولو كانوا ينبزونه بنقص أو سخَف لقالوا : نحن نترفع عن معالجة الإِتيان بمثله .
ومعنى { بين يديه } القريب منه سواء كان سابقاً كقوله تعالى : { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } [ سبأ : 46 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم " بعثت بين{[334]} يدي الساعة " أم كان جائياً بعده كما حكى الله عن عيسى عليه السّلام " ومصدقاً لما بين يدي من التوراة " في سورة آل عمران ( 50 ) . وليس مراداً هنا لأنه غير مفروض ولا مدّعى .
{ وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بعض القول } .
أُردفت حكايات أقوالهم وكفرانهم بعد استيفاء أصنافها بذكر جزائهم وتصوير فظاعته بما في قوله : { ولو ترى إذ الظالمون } الآية من الإِبهام المفيد للتهويل . والمناسبة ما تقدم من قوله : { ويقولون متى هذا الوعد } [ سبأ : 29 ] فإنه بعد أن ألقمهم الحجر بقوله : { قل لكم ميعاد يوم } [ سبأ : 30 ] الخ أتبعَه بتصوير حالهم فيه .
والخطاب في { ولو ترى } لكل من يصلح لتلقي الخطاب ممّن تبلغه هذه الآية ، أي ولو يرى الرائي هذا الوقت .
وجواب { لو } محذوف للتهويل وهو حذف شائع . وتقديره : لرأيت أمراً عجباً .
و { إذْ } ظرف متعلق ب { ترى } أي لو ترى في الزمان الذي يوقف فيه الظالمون بين يدي ربهم .
و { الظالمون } : المشركون ، قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وتقدم قريب منه قوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } في سورة الأنعام ( 27 ) ، وقد وقع التصريح بأنه إيقاف جمَع بين المشركين والذين دَعَوْهم إلى الإِشراك في قوله تعالى : { ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } الآية في سورة يونس ( 28 ) .
والإِتيان بالجملة التي أضيف إليها الظرف إسمية هنا لإِفادة طول وقوفهم بين يدي الله طولاً يستوجب الضجر ويَملأ القلوب رعباً وهو ما أشار له حديث أنس وحديث أبي هريرة في شفاعة النبي لأهل المحشر : تدنو الشمس من رؤوس الخلائق فيشتدّ عليهم حرها فيقولون : لو استشفعنا إلى ربّنا حتى يُرِيحَنا من مكاننا الحديث .
وجملة يرجع بعضهم إلى بعض القول } في موضع الحال من { الظالمون } أو من ضمير { موقوفون } .
وجيء بالمضارع في قوله : { يرجع بعضهم إلى بعض القول } لاستحضار الحالة كقوله تعالى : { يجادلنا في قوم لوط } [ هود : 74 ] .
ورجْع القولِ : الجواب ، ورجْع البعضضِ إلى البعض : المجاوبة والمحاورة . وهي أن يقول بعضهم كلاماً ويجيبه الآخر عنه وهكذا ؛ شبه الجواب عن القول بإرجاع القول كأنَّ المجيب أرجع إلى المتكلم كلامه بعينه إذ كان قد خاطبه بكِفائه وعدْلِه ، قال بشار :
وكأنَّ رجْعَ حديثها *** قِطَع الرياض كُسِينَ زَهْرا
أي كأنَّ جوابها حيث تجيبه ، ومنه قيل للجواب : ردّ . ورجَعْ الرشق في الرمي : ما تَرُدّ عليه من التراشق .
{ يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لكنا مؤمنين } .
هذه الجملة وما ذكر بعدها من الجمل المحكية بأفعال القول بيان لجملة { يرجع بعضهم إلى بعض القول } . وجيء بالمضارع فيها على نحو ما جيء في قوله : { يرجع بعضهم إلى بعض القول } ليكون البيان كالمبيَّن بها لاستحضار حالة القول لأنها حالة غريبة لما فيها من جرأة المستضعفين على المستكبِرين ومن تنبه هؤلاء من غفلتهم عما كان المستكبرون يغرُّونهم به حتى أوقعوهم في هذا المأزق .
والسين والتاء في { استضعفوا } للعدّ والحسبان ، أي الذين يعدّهم الناس ضعفاء لا يؤبه بهم وإنما يعدُّهم الناس كذلك لأنهم كذلك ويُعلم أنهم يستضعفون أنفسهم بالأولى لأنهم أعلم بما في أنفسهم .
والضعف هنا الضعف المجازي وهو حالة الاحتياج في المهمات إلى من يضطلع بشؤونهم ويَذُّب عنهم ويصرّفهم كيف يشاء .
ومن مشمولاته الضعة والضراعة ولذلك قوبل ب « الذين استكبروا » ، أي عدُّوا أنفسهم كبراءَ وهم ما عدُّوا أنفسهم كبراء إلا لما يقتضي استكبارهم لأنهم لو لم يكونوا كذلك لوُصِفوا بالغرور والإِعجاب الكاذب . ولهذا عبّر في جانب الذين استضعفوا بالفعل المبنيّ للمجهول وفي جانب الذين استكبروا بالفعل المبني للمعلوم ، وقد تقدم في سورة هود .
و { لولا } حرف امتناع لوجود ، أي حرف يدل على امتناع جواب ( أي انتفائه ) لأجل وُجود شرطه فعلم أنها حرف شرط ولكنهم اختصروا العبارة ، ومعنى : لأجل وجود شرطه ، أي حصوله في الوجود ، وهو حرف من الحروف الملازمة الدخول على الجملة الإسمية فيلزم إيلاؤه اسماً هو مبتدأ . u وقد كثر حذف خبر ذلك المبتدأ في الكلام غالباً بحيث يبقى من شرطها اسم واحد وذلك اختصار لأن حرف { لولا } يؤذن بتعليق حصول جَوابه على وجود شرطه . فلما كان الاسم بعدها في معنى شيء موجود حذفوا الخبر اختصاراً . ويعلم من المقام أن التعليق في الحقيقة على حالة خاصة من الأحوال التي يكون عليها الوجود مفهومةٍ من السياق لأنه لا يكون الوجود المجردُ لشيءٍ سبباً في وجود غيره وإنما يؤخذ أخصّ أحواله الملازمة لوجوده .
وهذا المعنى عبر عنه النحويُّون بالوجود المطلق وهي عبارة غير متقنة ومرادهم أعلق أحوال الوجود به وإلا فإن الوجود المطلق ، أي المجرد لا يصلح لأن يعلق عليه شرط .
وقد جاء في هذه الآية ربط التعليق بضمير « الذين استكبروا » فاقتضى أن المستضعفين ادَّعَوا أن وجود المستكبرين مانع لهم أن يكونوا مؤمنين . فاقتضى أن جميع أحوال المستكبرين كانت تدندن حول منعهم من الإِيمان فكَأنَّ وجودهم لا أثر له إلا في ذلك مِن انقطاعهم للسعي في ذلك المنع وهو ما دلّ عليه قولهم فيما بعد { بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله } [ سبأ : 33 ] من فرط إلحاحهم عليهم بذلك وتكريره في معظم الأوقات ، فكأنه استغرق وجودهم ، لأن الوجود كونٌ في أزمنة فكَانَ قولهم هنا { لولا أنتم } مبالغةً في شدة حرصهم على كفرهم . وهذا وجه وجيه في الاعتبار البلاغي فمقتضى الحال من هذه الآية هو حذف المشبه .
واعلم أن المراد بقولهم : { مؤمنين } بالمعنى اللقبيّ الذي اشتهر به المسلمون فكذلك لا يقدر لِ { مؤمنين } متعلِّق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَقَالَ الّذِينَ كَفَروا" من مشركي العرب: "لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرآنِ "الذي جاءنا به محمد صلى الله عليه وسلم، ولا بالكتاب الذي جاء به غيره من بين يديه... عن قتادة، قوله: "لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرآنِ وَلا بالّذِي بينَ يَدَيْهِ" قال: قال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن، وَلا بالّذِي بينَ يَدَيْهِ من الكتب والأنبياء.
وقوله: "وَلَوْ تَرَى إذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبّهِمْ" يتلاومون، يحاور بعضهم بعضا، يقول المستضعفون في الدنيا للذين كانوا عليهم فيها يستكبرون: "لولا أنتم" أيها الرؤساء والكبراء في الدْنيا "لكنا مؤمنين" بالله وآياته.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
كأن هذا القول منهم والله أعلم، خرج عن مخاصمة وقعت بينهم وبين المؤمنين في شأن القرآن أو في شأن محمد، فتحاكموا على الكتاب على اتفاق منهم على ما في كتبهم، فلما خرج ذلك على موافقة قول المؤمنين ومخالفة قول أولئك، قالوا عند ذلك: {لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه}.
وإلا على الابتداء من غير تنازع وخصومة كان بينهم، غير مستقيم.
يذكر بعض أهل التأويل [عن] ابن عباس وغيره أن رهطا بعثتهم قريش إلى المدينة إلى رؤساء اليهود [والنصارى] يسألونهم عن محمد وبعثه، فأخبروهم أنه كائن وأنه مبعوث، فلما رجعوا إليهم، فأخبروهم أنهم قد عرفوه، وهو عندهم في التوراة والإنجيل، فعند ذلك قالوا ما قالوا.
ثم كأنه اشتدّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقُل عليه، قال له على التعزية والتصبير على ذلك: {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم} أي: محبوسون عند ربهم على محاسبة ما كان منهم من العناد والمكابرة والتكذيب، أي لو رأيت ما فيهم من الذُّل والهوان والخضوع لرحمتهم، ولأخذتك الرأفة لهم.
{يرجع بعضهم إلى بعض القول} أي يلوم بعضهم بعضا، فيقولون ما ذكر {يقول الذين استُضعفوا} أي السّفلة والأتباع {للذين استكبروا} أي القادة منهم والرؤساء {لولا أنتم} في ما صرفتمونا عن دين الله، وصددتمونا عنه {لكنّا مؤمنين} به تابعين له، لأنهم كانوا يصدرون لآرائهم ويقبلون قولهم لما هم كانوا أهل شرف ومعرفة، والسفلة لا.
{لولا أنتم لكنّا مؤمنين} نتّبع رأي أنفسنا، فنؤمن به، لكن قلتم لنا: أنه كذب وإنه افتراه وإنه سحر فنحن صدّقناكم في ذلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هكذا أصحابُ الزلاتِ الأخلاءُ في الفساد، قال تعالى: {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الزخرف: 67]، وكذلك الجوارحُ والأعضاء غداً يشهد بعضها على بعض؛ فاليد تقول للجملة أخذت، والعين تقول أبصرت، والاختلاف في الجملة عقوبة، ومَنْ عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لاعتبروا، ولو اعتبروا لتابوا ووفّقُوا... ولكن ليقضي اللَّهُ أَمْراً كان مفعولاً.
{وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرءان ولا بالذي بين يديه} لما بين الأمور الثلاثة من التوحيد والرسالة والحشر وكانوا بالكل كافرين، بين كفرهم العام بقوله: {وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرءان} وذلك لأن القرآن مشتمل على الكل.
{ولا بالذي بين يديه} المشهور أنه التوراة والإنجيل، وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم المشركون المنكرون للنبوات والحشر.
ويحتمل أن يقال إن المعنى هو أنا لا نؤمن بالقرآن أنه من الله، ولا بالذي بين يديه أي ولا بما فيه من الإخبارات والمسائل والآيات والدلائل، وعلى هذا فالذين كفروا المراد منهم العموم، لأن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن أنه من الله، ولا بالذي فيه من الرسالة وتفاصيل الحشر.
فإن قيل: أليس هم مؤمنون بالوحدانية والحشر، فنقول إذا لم يصدق واحد ما في الكتاب من الأمور المختصة به، يقال فيه إنه لم يؤمن بشيء منه، وإن آمن ببعض ما فيه لكونه في غيره فيكون إيمانه لا بما فيه.
{ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين}، لما وقع اليأس من إيمانهم في هذه الدار بقولهم لن نؤمن، فإنه لتأييد النفي، وعد نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يراهم على أذل حال موقوفين للسؤال يرجع بعضهم إلى بعض القول، كما يكون عليه حال جماعة أخطأوا في أمر يقول بعضهم كان ذلك بسببك ويرد عليه الآخر مثل ذلك.
وجواب لو محذوف تقديره: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون لرأيت عجبا.
ثم بدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ فقال: {يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين} إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع، لا لعدم المقتضى، لأنهم لا يمكنهم أن يقولوا ما جاءنا رسول، ولا أن يقولوا قصر الرسول، وهذا إشارة إلى إتيان الرسول بما عليه لأن الرسول لو أهمل شيئا لما كانوا يؤمنون ولولا المستكبرون لآمنوا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما دل سبحانه بملازمتهم للاستهزاء بهذا الإنذار على أنهم غير منفكين عن مذاهب الكفار، ذكر تصريحهم بذلك وحالهم في بعض الأوقات المنطبقة عليها الآية السالفة في قوله: {وقال الذين كفروا} حيث عبر بالموصول وصلته في موضع الضمير، واكتفى بالماضي هنا لصراحته في المقصود وكفايته في الحكم بالكفر، فقالوا مؤكدين قطعاً للأطماع عن دعائهم: {لن نؤمن} أي نصدق أبداً، وصرحوا بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم بالإشارة فقالوا: {بهذا القرآن} أي وإن جمع جميع الحكم والمقاصد المضمنة لبقية الكتب.
{ولو} أي والحال أنك {ترى} أي يوجد منك رؤية لحالهم {إذ} هم -هكذا كان الأصل، ولكن أظهر الوصف تعميماً وتعليقاً للحكم به فقال: {الظالمون} أي الذين يضعون الأشياء في غير محالها، فيصدقون آباءهم لإحسان يسير مكدر بغير دليل، ولا يصدقون ربهم الذي لا نعمة عندهم ولا عند آبائهم إلا منه، وقد أقام لهم أدلة العقل بما ضرب لهم من الأمثال في الآفاق وفي أنفسهم، والنقل بهذا القرآن المدلول على صدقه بعد إظهار المعجزات المحسوسات بعجزهم عنه، فكأنهم سمعوه من الله المنعم الحق.
{عند ربهم} أي الذي أحسن إليهم فطال إحسانه فكفروا كلما أحسن به إليهم.
{يرجع بعضهم} أي على وجه الخصام عداوة، و كان سببها مواددتهم في الدنيا بطاعة بعضهم لبعض في معاصي الله، قال القشيري: ومن عمل بالمعاصي أخرج الله عليه كل من هو أطوع له، ولكنهم لا يعلمون ذلك، ولو علموا لاعتبروا، ولو اعتبروا لتابوا وتوافقوا، ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
{إلى بعض القول} أي بالملاومة والمباكتة والمخاصمة، لرأيت أمراً فظيعاً منكراً هائلاً شنيعاً مقلقاً وجيعاً يسرك منظره، ويعجبك منهم أثره ومخبره، من ذلهم وتحاورهم وتخاذلهم حيث لا ينفعهم شيء من ذلك.
ولما كان هذا مجملاً، فسره بقوله على سبيل الاستئناف: {يقول الذين استضعفوا} أي وقع استضعافهم ممن هو فوقهم في الدنيا وهم الأتباع في تلك الحالة على سبيل اللوم والتأنيب.
{للذين استكبروا} أي أوجدوا الكبر وطلبوه بما وجدوا من أسبابه التي أدت إلى استضعافهم للأولين وهم الرؤوس المتبوعون.
{لولا أنتم} أي مما وجد من استتباعكم لنا على الكفر وغيره من أموركم.
{لكنا مؤمنين} أي عريقين في الإيمان لأنه لم يكن عندنا كبر من أنفسنا يحملنا على العناد للرسل...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
العناد والإصرار ابتداء على رفض الهدى في كل مصادره، لا القرآن ولا الكتب التي سبقته، والتي تدل على صدقه، فلا هذا ولا ذاك هم مستعدون للإيمان به لا اليوم ولا الغد، ومعنى هذا أنهم يصرون على الكفر، ويجزمون عن قصد بأنهم لن ينظروا في دلائل الهدى كائنة ما كانت، فهو العمد إذن وسبق الإصرار!... ذلك كان قولهم في الدنيا: (لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه).. فلو ترى قولهم في موقف آخر، لو ترى هؤلاء الظالمين وهم (موقوفون) على غير إرادة منهم ولا اختيار؛ إنما هم مذنبون بالوقوف في انتظار الجزاء (عند ربهم).
ثم ها هم أولاء موقوفون عنده! لو ترى يومئذ لرأيت هؤلاء الظالمين يلوم بعضهم بعضاً، ويؤنب بعضهم بعضاً، ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض: (يرجع بعضهم إلى بعض القول).. فماذا يرجعون من القول؟ (يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا: لولا أنتم لكنا مؤمنين).. فيلقون على الذين استكبروا تبعة الوقفة المرهوبة المهينة، وما يتوقعون بعدها من البلاء! يقولون لهم هذه القولة الجاهرة اليوم؛ ولم يكونوا في الدنيا بقادرين على مواجهتهم هذه المواجهة؛ كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم، والكرامة التي منحها إياهم، والإدراك الذي أنعم به عليهم؛ أما اليوم وقد سقطت القيم الزائفة، وواجهوا العذاب الأليم، فهم يقولونها غير خائفين ولا مبقين! (لولا أنتم لكنا مؤمنين)!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الآية انتقال إلى ذكر طعن المشركين في القرآن، وهي معطوفة على جملة {ويقولون متى هذا الوعد} [سبأ: 29]، والاقتصار على حكاية مقالتهم دون تعقيب بما يبطلها إيماء إلى أن بطلانها بادٍ لكل مَنْ يسمعها، حيث جمعت التكذيب بجميع الكتب والشرائع وهذا بهتان واضح.
وحكاية مقالتهم هذه بصيغة الماضي تؤذن بأنهم أقلعوا عنها، وجيء بحرف {لن} لتأكيد نفي إيمانهم بالكتب المنزلة على التأبيد تأييساً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الطمع في إيمانهم به.
واسم الإِشارة مشار به إلى حاضر في الأذهان، لأن الخوض في القرآن شائع بين الناس من مؤيد ومنكر فكأنه مشاهدَ، وليس في اسم الإِشارة معنى التحقير لأنهم ما كانوا ينبزون القرآن بالنقصان، أَلا ترى إلى قول الوليد بن المغيرة: « إن أعلاه لمُثْمِر وإن أسفله لَمُغْدق»...وكيف وقد تحداهم الإِتيان بسورة مثله فلم يفعلوا، ولو كانوا ينبزونه بنقص أو سخَف لقالوا: نحن نترفع عن معالجة الإِتيان بمثله.
ومعنى {بين يديه} القريب منه سواء كان سابقاً كقوله تعالى: {إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد} [سبأ: 46] وقول النبي صلى الله عليه وسلم "بعثت بين يدي الساعة "أم كان جائياً بعده كما حكى الله عن عيسى عليه السّلام "ومصدقاً لما بين يدي من التوراة" في سورة آل عمران (50)، وليس مراداً هنا لأنه غير مفروض ولا مدّعى.
{وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بعض القول} أُردفت حكايات أقوالهم وكفرانهم بعد استيفاء أصنافها بذكر جزائهم وتصوير فظاعته بما في قوله: {ولو ترى إذ الظالمون} الآية من الإِبهام المفيد للتهويل؛ والمناسبة ما تقدم من قوله: {ويقولون متى هذا الوعد} [سبأ: 29] فإنه بعد أن ألقمهم الحجر بقوله: {قل لكم ميعاد يوم} [سبأ: 30] الخ أتبعَه بتصوير حالهم فيه.
والخطاب في {ولو ترى} لكل من يصلح لتلقي الخطاب ممّن تبلغه هذه الآية، أي ولو يرى الرائي هذا الوقت، وجواب {لو} محذوف للتهويل وهو حذف شائع. وتقديره: لرأيت أمراً عجباً. و {إذْ} ظرف متعلق ب {ترى} أي لو ترى في الزمان الذي يوقف فيه الظالمون بين يدي ربهم.
و {الظالمون}: المشركون، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]
والإِتيان بالجملة التي أضيف إليها الظرف إسمية هنا لإِفادة طول وقوفهم بين يدي الله طولاً يستوجب الضجر ويَملأ القلوب رعباً،وهو ما أشار له حديث أنس وحديث أبي هريرة في شفاعة النبي لأهل المحشر: تدنو الشمس من رؤوس الخلائق فيشتدّ عليهم حرها فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا حتى يُرِيحَنا من مكاننا الحديث.
وجملة يرجع بعضهم إلى بعض القول} في موضع الحال من {الظالمون} أو من ضمير {موقوفون}.
وجيء بالمضارع في قوله: {يرجع بعضهم إلى بعض القول} لاستحضار الحالة كقوله تعالى: {يجادلنا في قوم لوط} [هود: 74].
ورجْع القولِ: الجواب، ورجْع البعضِ إلى البعض: المجاوبة والمحاورة، وهي أن يقول بعضهم كلاماً ويجيبه الآخر عنه وهكذا؛ شبه الجواب عن القول بإرجاع القول، كأنَّ المجيب أرجع إلى المتكلم كلامه بعينه إذ كان قد خاطبه بكِفائه وعدْلِه، ومنه قيل للجواب: ردّ.
{يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لكنا مؤمنين}، هذه الجملة وما ذكر بعدها من الجمل المحكية بأفعال القول بيان لجملة {يرجع بعضهم إلى بعض القول}، وجيء بالمضارع فيها على نحو ما جيء في قوله: {يرجع بعضهم إلى بعض القول} ليكون البيان كالمبيَّن بها لاستحضار حالة القول، لأنها حالة غريبة لما فيها من جرأة المستضعفين على المستكبِرين، ومن تنبه هؤلاء من غفلتهم عما كان المستكبرون يغرُّونهم به حتى أوقعوهم في هذا المأزق.
والسين والتاء في {استضعفوا} للعدّ والحسبان، أي الذين يعدّهم الناس ضعفاء لا يؤبه بهم؛ وإنما يعدُّهم الناس كذلك لأنهم كذلك ويُعلم أنهم يستضعفون أنفسهم بالأولى لأنهم أعلم بما في أنفسهم.
والضعف هنا الضعف المجازي وهو حالة الاحتياج في المهمات إلى من يضطلع بشؤونهم ويَذُّب عنهم ويصرّفهم كيف يشاء، ومن مشمولاته الضعة والضراعة ولذلك قوبل ب « الذين استكبروا»، أي عدُّوا أنفسهم كبراءَ؛ وهم ما عدُّوا أنفسهم كبراء إلا لما يقتضي استكبارهم لأنهم لو لم يكونوا كذلك لوُصِفوا بالغرور والإِعجاب الكاذب؛ ولهذا عبّر في جانب الذين استضعفوا بالفعل المبنيّ للمجهول وفي جانب الذين استكبروا بالفعل المبني للمعلوم.
و {لولا} حرف امتناع لوجود، أي حرف يدل على امتناع جواب (أي انتفائه) لأجل وُجود شرطه، فعلم أنها حرف شرط ولكنهم اختصروا العبارة.
وقد جاء في هذه الآية ربط التعليق بضمير « الذين استكبروا» فاقتضى أن المستضعفين ادَّعَوا أن وجود المستكبرين مانع لهم أن يكونوا مؤمنين؛ فاقتضى أن جميع أحوال المستكبرين كانت تدندن حول منعهم من الإِيمان فكَأنَّ وجودهم لا أثر له إلا في ذلك، مِن انقطاعهم للسعي في ذلك المنع وهو ما دلّ عليه قولهم فيما بعد {بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله} [سبأ: 33] من فرط إلحاحهم عليهم بذلك وتكريره في معظم الأوقات، فكأنه استغرق وجودهم، لأن الوجود كونٌ في أزمنة فكَانَ قولهم هنا {لولا أنتم} مبالغةً في شدة حرصهم على كفرهم، وهذا وجه وجيه في الاعتبار البلاغي فمقتضى الحال من هذه الآية هو حذف المشبه. واعلم أن المراد بقولهم: {مؤمنين} بالمعنى اللقبيّ الذي اشتهر به المسلمون فكذلك لا يقدر لِ {مؤمنين} متعلِّق.
قولهم {لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا الْقُرْآنِ..} يدل على لجلجتهم، ففي موضع آخر حكى القرآن عنهم قولهم:
{لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] ومعنى هذا أن القرآن لا غُبارَ عليه ولا اعتراضَ، الاعتراض على مَنْ نزل عليه القرآن، كذلك من الغباء قولهم:
{إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ..} [القصص: 57] فاعترفوا أنه جاء بالهدى.
ومثله قولهم: {لاَ تُنفِقُواْ عَلَىٰ مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ..} [المنافقون: 7].
صحيح، الباطل لجلج، يتخبط هنا وهناك في تفكير مُشوّش ليس له سِيال واحد، وهذا التخبط يكشف ما هم عليه من الباطل، وقلنا: إن المحقق الماهر هو الذي يصل إلى الحقيقة من خلال مناقشة المتهم مناقشة تُوقعه دون أن يدري، ذلك لأن المتكلم بالحق يحكي واقعاً على هيئة واحدة، فمهما أعدْتَ عليه السؤال يُجِب إجابة واحدة.
أمّا الكاذب فلا يحكي واقعاً، إنما يحكي كذباً واختلاقاً لا بُدَّ أن ينتهي بتضارب في أقواله...
بعد أن قالوا هذا الكلام أراد الحق سبحانه أن يُفظع الرد عليهم فقال: {وَلَوْ تَرَىٰ..} يعني: يا محمد {إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ..} يعني: بين يدي الله، ينتظرون الفصل والحساب.
تعلمون أن (لَوْ) أداة شرط تحتاج إلى جواب، هذا الجواب حُذِف من سياق الآية ليدلَّ على التهويل والتفظيع. وتقديره: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم.. لرأيتَ أمراً عظيماً، وهذا الأسلوب تذهب فيه النفس كلَّ مذهب، ونتصور ألوان العذاب والذلة التي يعانيها الكفار في هذا الموقف بين يدي الله عز وجل، فحَذْف الجواب هنا أبلغ من ذِكره...
ثم تستمر الآية في وصف موقف هؤلاء الظالمين بين يد الله تعالى، ويا ليتها تنتهي عند الذلة والانكسار، إنما {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ} يعني: يتجادلون ويتناقشون، يرمي كل منهم باللائمة على الآخر، ومعنى (يرجع) من المراجعة، فواحد يقول، والآخر يردُّ كلامه ويُنكِره، وفي القرآن مواضع كثيرة تحكى هذه المراجعة بين الأتباع والمتبوعين، وهنا نموذج منها:
{يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ} يعني: الضعفاء والمقلدين {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} وهم السادة الكبار المتبوعون {لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} فيكفي من عظمة القيامة أنْ يقف المستضعف أمام القوي ويراجعه ويواجهه -مع أن كلاهما خائب خاسر- ذلك لأن الضعف كان في الدنيا والاستكبار والتبعية، أما الآن وفي ساحة الحساب فقد تساوتْ الرؤوس، وها هم الضعفاء يقولون لأسيادهم {لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ}.
وما دامت المسألة مراجعة، كُلٌّ يُرجِع إلى الآخر قوله، فلا بُدَّ أنْ يرد الذين استكبروا، وأنْ يراجعوا الذين استُضْعِفوا.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ...}.