افتتحت هذه السورة بالإخبار بأنه سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، وأنه لا يليق بالمؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون ، وإن الله يحب أن يكونوا يدا واحدة ، ثم وصمت بني إسرائيل بالعناد والكفر على لسان رسولين كريمين هما موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وبأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله ، والله متم نوره ، وفيها وعد الله ووعده الحق أن يظهر هذا الدين على ما سواه ولو كره المشركون . وختمت بالحث على الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس ، وبوعد المجاهدين بالمغفرة والجنة ، وأخرى يحبها المؤمنون : نصر من الله وفتح قريب ، ويحث المؤمنين أن يكونوا أنصار الله كما كان الحواريون مع عيسى ابن مريم ، وبأن الله يؤيد المؤمنين بنصره وهو الغالب على كل شيء ذو الحكمة البالغة .
1- نزَّه الله عما لا يليق به كل ما في السماوات وما في الأرض ، وهو - وحده - الغالب على كل شيء ، ذو الحكمة البالغة .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وهذا بيان لعظمته تعالى وقهره ، وذل جميع الخلق{[1069]} له تبارك وتعالى ، وأن جميع من في السماوات والأرض يسبحون بحمد الله ويعبدونه ويسألونه حوائجهم ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي قهر الأشياء بعزته وسلطانه ، { الْحَكِيمُ } في خلقه وأمره .
سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة
هذه السورة تستهدف أمرين أساسيين واضحين في سياقها كل الوضوح ، إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الأمرين الأساسيين :
تستهدف أولا أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة ، سبقته صور منه تناسب أطوارا معينة في تاريخ البشرية ، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات ، تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد ، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات . وأن يظهره على الدين كله في الأرض . .
ومن ثم يذكر رسالة موسى ليقرر أن قومه الذين أرسل إليهم آذوه وانحرفوا عن رسالته فضلوا ، ولم يعودوا أمناء على دين الله في الأرض : ( وإذ قال موسى لقومه : يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم . فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . . وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين الله ؛ فلم يعودوا أمناء عليه ، مذ زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، ومذ ضلوا فأضلهم الله والله لا يهدي القوم الفاسقين .
ويذكر رسالة عيسى ليقرر أنه جاء امتدادا لرسالة موسى ، ومصدقا لما بين يديه من التوراة ، وممهدا للرسالة الأخيرة ومبشرا برسولها ؛ ووصلة بين الدين الكتابي الأول والدين الكتابي الأخير : وإذ قال عيسى ابن مريم : يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم ، مصدقا لما بين يدي من التوراة ، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . . وإذن فقد جاء ليسلم أمانة الدين الإلهي التي حملها بعد موسى إلى الرسول الذي يبشر به .
وكان مقررا في علم الله وتقديره أن تنتهي هذه الخطوات إلى قرار ثابت دائم ، وأن يستقر دين الله في الأرض في صورته الأخيرة على يدي رسوله الأخير : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .
هذا الهدف الأول الواضح في السورة يقوم عليه الهدف الثاني . فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة ، وإدراكه لقصة العقيدة ، ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض . . يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعورا يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كله - كما أراد الله - وعدم التردد بين القول والفعل ؛ ويقبح أن يعلن المؤمن الرغبة في الجهاد ثم ينكص عنه ، كما يبدو أنه حدث من فريق من المسلمين كما تذكر الروايات . . ومن ثم يجيء في مطلع السورة بعد إعلان تسبيح الكون وما فيه لله . . ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ? كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون . إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) .
ثم يدعوهم في وسط السورة إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ? تؤمنون بالله ورسوله ، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم . ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، ومساكن طيبة في جنات عدن ، ذلك الفوز العظيم . وأخرى تحبونها : نصر من الله وفتح قريب ، وبشر المؤمنين ) .
ثم يختم السورة بنداء أخير للذين آمنوا ، ليكونوا أنصار الله كما كان الحواريون أصحاب عيسى أنصاره إلى الله ، على الرغم من تكذيب بني إسرائيل به وعدائهم لله : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين : من أنصاري إلى الله ? قال الحواريون : نحن أنصار الله . فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة ، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ) . .
هذان الخطان واضحان في السورة كل الوضوح ، يستغرقان كل نصوصها تقريبا . فلا يبقى إلا التنديد بالمكذبين بالرسالة الأخيرة - وهذه قصتها وهذه غايتها - وهذا التنديد متصل دائما بالخطين الأساسيين فيها . وذلك قول الله تعالى ، عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد ذكر تبشير عيسى - عليه السلام - به : ( فلما جاءهم بالبينات قالوا : هذا سحر مبين . ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام ? والله لا يهدي القوم الظالمين . يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ، ولو كره الكافرون ) . .
وفيه يتضح في ضمير المسلم أن دينه هو دين الله في صورته الأخيرة في الأرض ؛ وأن أمانة العقيدة في البشرية كلها موكولة إليه ؛ يعلم أنه مكلف أن يجاهد في سبيل الله ، كما يحب الله ؛ ويتضح طريقه ، فلا يبقى في تصوره غبش ، ولا يبقى في حياته مجال للتمتمة والغمغمة في هذه القضية ، أو للتردد والتلفت عن الهدف المرسوم والنصيب المقسوم في علم الله وتقديره منذ بعيد .
وفي أثناء توجيهه إلى هذا الهدف الواضح يوجه كذلك إلى خلق المسلم وطبيعة ضميره . وهو أن لا يقول ما لا يفعل ، وألا يختلف له قول وفعل ، ولا ظاهر وباطن ، ولا سريرة وعلانية . وأن يكون هو نفسه في كل حال . متجردا لله . خالصا لدعوته . صريحا في قوله وفعله . ثابت الخطو في طريقه . متضامنا مع إخوانه . كالبنيان المرصوص . .
( سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ) . .
تجيء هذه التسبيحة من الوجود كله لله العزيز الحكيم ، في مطلع السورة التي تعلن للمسلمين أن دينهم هو الحلقة الأخيرة في دين الله ؛ وأنهم هم الأمناء على هذا الدين الذي يوحد الله ، وينكر على الكافرين المشركين كفرهم وشركهم ، والذي يدعوهم للجهاد لنصرته ، وقد قدر الله أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون . فيوحي هذا المطلع أن الأمانة التي يقوم عليها المسلمون هي أمانة الوجود كله ؛ وأن العقيدة التي يطلب إليهم الجهاد فيها هي عقيدة كل ما في السماوات وما في الأرض ؛ وأن ظهور هذا الدين على الدين كله ، هو ظاهرة كونية تتسق مع اتجاه الكون كله إلى الله العزيز الحكيم .
القول في تأويل قوله تعالى : { سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : سَبّحَ لِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ السبع وَما فِي الأرْضِ من الخلق ، مُذعنين له بالألوهة والربوبية وَهُوَ العَزِيزُ في نقمته ممن عصاه منهم ، فكفر به ، وخالف أمره الْحَكِيمُ في تدبيره إياهم .
( 61 ) سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة ، وهي مدنية في قول الجمهور ، وقال مكي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والمهدوي عن عطاء ومجاهد : إنها مكية ، والأول أصح لأن معاني السورة تعضده ، ويشبه أن يكون فيها المكي .
قوله عز وجل :{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
قد تقدم القول غير مرة في تسبيح الجمادات ، و { العزيز } في سلطانه وقدرته ، و { الحكيم } في أفعاله وتدبيره .
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
سورة الصف مدنية في قول الجميع.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
سورة الصف مدنية في قول الجمهور، وقال مكي عن ابن عباس رضي الله عنهما، والمهدوي عن عطاء ومجاهد: إنها مكية، والأول أصح لأن معاني السورة تعضده، ويشبه أن يكون فيها المكي.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
سورة الصف ويقال لها: سورة الحواريين.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قال الإمام أحمد رحمه الله: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة -وعن عطاء بن يسار، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن سلام قال: تذاكرنا: أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فلم يقم أحد منا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة، يعني سورة الصف كلها. هكذا رواه الإمام أحمد وقد رواه الترمذي.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
الحث على الاجتهاد التام في الاجتماع على قلب واحد في جهاد من دعت الممتحنة إلى البراءة منهم، بحملهم على الدين الحق، أو محقهم عن جديد الأرض أقصى المحق، تنزيها للملك الأعلى عن الشرك، وصيانة لجنابه الأقدس عن الإفك، ودلالة على الصدق في البراءة منهم والعداوة لهم، فهي نتيجة سورة التوبة، وأدل ما فيها على هذا المقصد الصف بتأمل آيته، وتدبر ما له من جليل النفع في أوله وأثنائه وغايته...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وتسمى أيضا سورة الحواريين وسورة عيسى عليه السلام...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وهي مدنية، ولا عبرة بقول إنها مكية، لأن آياتها المحرضة على القتال ترده، لأنه لم يشرع الجهاد إلا في المدينة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة تستهدف أمرين أساسيين واضحين في سياقها كل الوضوح، إلى جانب الإشارات والتلميحات الفرعية التي يمكن إرجاعها إلى ذينك الأمرين الأساسيين:
تستهدف أولا أن تقرر في ضمير المسلم أن دينه هو المنهج الإلهي للبشرية في صورته الأخيرة، سبقته صور منه تناسب أطوارا معينة في تاريخ البشرية، وسبقته تجارب في حياة الرسل وحياة الجماعات، تمهد كلها لهذه الصورة الأخيرة من الدين الواحد، الذي أراد الله أن يكون خاتمة الرسالات. وأن يظهره على الدين كله في الأرض..
ومن ثم يذكر رسالة موسى ليقرر أن قومه الذين أرسل إليهم آذوه وانحرفوا عن رسالته فضلوا، ولم يعودوا أمناء على دين الله في الأرض: (وإذ قال موسى لقومه: يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم. فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم، والله لا يهدي القوم الفاسقين).. وإذن فقد انتهت قوامة قوم موسى على دين الله؛ فلم يعودوا أمناء عليه، مذ زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، ومذ ضلوا فأضلهم الله والله لا يهدي القوم الفاسقين.
ويذكر رسالة عيسى ليقرر أنه جاء امتدادا لرسالة موسى، ومصدقا لما بين يديه من التوراة، وممهدا للرسالة الأخيرة ومبشرا برسولها؛ ووصلة بين الدين الكتابي الأول والدين الكتابي الأخير: وإذ قال عيسى ابن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم، مصدقا لما بين يدي من التوراة، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.. وإذن فقد جاء ليسلم أمانة الدين الإلهي التي حملها بعد موسى إلى الرسول الذي يبشر به.
وكان مقررا في علم الله وتقديره أن تنتهي هذه الخطوات إلى قرار ثابت دائم، وأن يستقر دين الله في الأرض في صورته الأخيرة على يدي رسوله الأخير: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
هذا الهدف الأول الواضح في السورة يقوم عليه الهدف الثاني. فإن شعور المسلم بهذه الحقيقة، وإدراكه لقصة العقيدة، ولنصيبه هو من أمانتها في الأرض.. يستتبع شعوره بتكاليف هذه الأمانة شعورا يدفعه إلى صدق النية في الجهاد لإظهار دينه على الدين كله -كما أراد الله- وعدم التردد بين القول والفعل؛ ويقبح أن يعلن المؤمن الرغبة في الجهاد ثم ينكص عنه، كما يبدو أنه حدث من فريق من المسلمين كما تذكر الروايات.. ومن ثم يجيء في مطلع السورة بعد إعلان تسبيح الكون وما فيه لله.. (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون؟ كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون. إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص).
ثم يدعوهم في وسط السورة إلى أربح تجارة في الدنيا والآخرة: (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم؟ تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم. ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار، ومساكن طيبة في جنات عدن، ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها: نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين).
ثم يختم السورة بنداء أخير للذين آمنوا، ليكونوا أنصار الله كما كان الحواريون أصحاب عيسى أنصاره إلى الله، على الرغم من تكذيب بني إسرائيل به وعدائهم لله: (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله. فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين)..
هذان الخطان واضحان في السورة كل الوضوح، يستغرقان كل نصوصها تقريبا. فلا يبقى إلا التنديد بالمكذبين بالرسالة الأخيرة -وهذه قصتها وهذه غايتها- وهذا التنديد متصل دائما بالخطين الأساسيين فيها. وذلك قول الله تعالى، عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] بعد ذكر تبشير عيسى -عليه السلام- به: (فلما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين. ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام؟ والله لا يهدي القوم الظالمين. يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، والله متم نوره، ولو كره الكافرون)..
وفيه يتضح في ضمير المسلم أن دينه هو دين الله في صورته الأخيرة في الأرض؛ وأن أمانة العقيدة في البشرية كلها موكولة إليه؛ يعلم أنه مكلف أن يجاهد في سبيل الله، كما يحب الله؛ ويتضح طريقه، فلا يبقى في تصوره غبش، ولا يبقى في حياته مجال للتمتمة والغمغمة في هذه القضية، أو للتردد والتلفت عن الهدف المرسوم والنصيب المقسوم في علم الله وتقديره منذ بعيد.
وفي أثناء توجيهه إلى هذا الهدف الواضح يوجه كذلك إلى خلق المسلم وطبيعة ضميره. وهو أن لا يقول ما لا يفعل، وألا يختلف له قول وفعل، ولا ظاهر وباطن، ولا سريرة وعلانية. وأن يكون هو نفسه في كل حال. متجردا لله. خالصا لدعوته. صريحا في قوله وفعله. ثابت الخطو في طريقه. متضامنا مع إخوانه. كالبنيان المرصوص..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اشتهرت هذه السورة باسم سورة الصف وكذلك سميت في عصر الصحابة.
روى ابن أبي حاتم سنده إلى عبد الله بن سلام أن ناسا قالوا: لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى أن قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة سبح لله الصف الحديث، رواه ابن كثير، وبذلك عنونت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي، وكذلك كتب اسمها في المصاحف وفي كتب التفسير.
ووجه التسمية وقوع لفظ {صفا} فيها وهو صف القتال، فالتعريف باللام تعريف العهد.
وذكر السيوطي في الإتقان: أنها تسمى سورة الحواريين ولم يسنده. وقال الآلوسي تسمى سورة عيسى، ولم أقف على نسبته لقائل. وأصله للطبرسي فلعله أخذ من حديث رواه في فضلها عن أبي بن كعب بلفظ سورة عيسى. وهو حديث موسوم بأنه موضوع. والطبرسي يكثر من تخريج الأحاديث الموضوعة. فتسميتها سورة الحواريين لذكر الحواريين فيها. ولعلها أول سورة نزلت ذكر فيها لفظ الحواريين.
وإذا ثبت تسميتها سورة عيسى فلما فيها من ذكر عيسى مرتين.
وهي مدنية عند الجمهور كما يشهد لذلك حديث عبد الله بن سلام. وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنها مكية ودرج عليه في الكشاف والفخر. وقال ابن عطية: الأصح أنها مدنية ويشبه أن يكون فيها المكي.
واختلف في سبب نزولها وهل نزلت متتابعة أو متفرقة متلاحقة.
وفي جامع الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: قعدنا نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا فقلنا: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} قال عبد الله بن سلام فقرأها علينا رسول الله. وأخرجه الحاكم وأحمد في مسنده وابن أبي حاتم والدرامي بزيادة فقرأها علينا رسول الله حتى ختمها أو فقرأها كلها.
فهذا يقتضي أنهم قيل لهم: لم تقولون ما لا تفعلون قبل أن يخلفوا ما وعدوا به فيكون الاستفهام مستعملا مجازا في التحذير من عدم الوفاء بما نذروه ووعدوا به.
وعن علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} قال: كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون: لوددنا أن الله عز وجل دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به، فأخبر الله أن أحب الأعمال: إيمان به وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا الإيمان ولم يقروا به. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم. فأنزل الله سبحانه وتعالى {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}.
ومثله عن أبي صالح أن السورة نزلت بعد أن أمروا بالجهاد بآيات غير هذه السورة. وبعد أن وعدوا بالانتداب للجهاد ثم تقاعدوا عنه وكرهوه. وهذا المروي عن ابن عباس وهو أوضح وأوفق بنظم الآية، والاستفهام فيه للتوبيخ واللوم وهو المناسب لقوله بعده {كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}.
وعن مقاتل بن حيان: قال المؤمنون: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به فدلهم الله فقال: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا}، فابتلوا يوم أحد بذلك فولوا مدبرين فأنزل الله {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون}. ونسب الواحدي مثل هذا للمفسرين وهو يقتضي أن صدر الآية نزل بعد آخرها.
وعن الكلبي: أنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها فنزلت {هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم} الآية. فابتلوا يوم أحد فنزلت {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} تعيرهم بترك الوفاء. وهو يقتضي أن معظم السورة قبل نزول الآية التي في أولها...
أول أغراضها التحذير من إخلاف الوعد والالتزام بواجبات الدين.
والتحريض على الجهاد في سبيل الله والثبات فيه، وصدق الإيمان.
والائتساء بالصادقين مثل الحواريين.
والتحذير من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم تعريضا باليهود مثل كعب بن الأشرف.
وضرب المثل لذلك بفعل اليهود مع موسى وعيسى عليهما السلام.
والوعد على إخلاص الإيمان والجهاد بحسن مثوبة الآخرة والنصر والفتح.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
سورة الصف: في السورة كسابقاتها تقرير بتسبيح كل ما في السماوات والأرض لله وتنديد ببعض المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون. ودعوة للصدق والتضامن في القتال في سبيل الله وإيذان بحب الله لمن يفعلون ذلك. وتذكير تحذيري بما كان من بني إسرائيل إزاء موسى عليه السلام من إزعاج وأذى. وحكاية لقول عيسى عليه السلام لقومه بماهية رسالته وبشارته بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعده. وإيذان بأن الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليكون الدين الظاهر على جميع الأديان. وبأن سيتم نوره ويحبط جهد الذين يريدون إطفاءه وبشارة دنيوية وأخروية للمجاهدين في سبيل الله وحث على الجهاد. ودعوة للتأسي بالحواريين في نصر دين الله. وآيات السورة مترابطة ووحدة تامة وفيما جاء في صدد موسى وعيسى عليهما السلام تدعيم موقف النبي من الدعوة إلى الجهاد مما يحمل على الترجيح بنزولها دفعة واحدة أو متتابعة مع التنبيه إلى أن هناك حديثا يذكر أنها نزلت دفعة واحدة في مناسبة معينة على ما سوف يرد بعد.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في هذه السورة المدنية حديثٌ متنوعٌ عن عدة قضايا ترتبط فيما بينها بحركة الرسالة في بعض مواقعها، وفي الخط التاريخي الذي يطل على أجواء النبوات، ليعود بعد ذلك فيثير مسألة الالتزام الحركي في حياة المسلمين الذي يجعل الترابط بين الإيمان والجهاد كجزءٍ من الترابط العام بين القول والفعل، ليصل بعد ذلك إلى الدعوة إلى الانضمام إلى الرسالة بالمستوى الذي يكون المؤمنون أنصار الله كما كان الحواريون المؤمنون بعيسى (عليه السلام) أنصار الله، ليكونوا الجماعة المميزة الملتزمة بالخط الرسالي، في مقابل الجماعات الكافرة التي تعيش الضلال على مستوى العقيدة والعمل...
اسم السورة: أمّا كلمة «الصف»، فقد جاءت عنواناً للسورة من خلال الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} باعتبار أن العمق الفكري للآية هو الجهاد القتالي الذي يتحرك فيه المسلمون في وحدة الصف التي لا تترك فيه مجالاً لأية ثغرةٍ ينفذ منها الأعداء إلى المجتمع الإسلامي...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تدور أبحاث هذه السورة إجمالا حول محورين أساسيين.
الأوّل: فضيلة الإسلام على جميع الأديان السماوية، وضمان خلوده وبقائه. والثاني: وجوب الجهاد في طريق حفظ المبدأ وترسيخ أركانه وتطوير العمل لتقدّمه والالتزام به.
إلاّ أنّنا حينما نتأمّل في الآيات الكريمة نلاحظ إمكانية تقسيمها إلى سبعة أقسام من خلال نظرة تفصيلية، وتشمل ما يلي:
تتحدّث بداية السورة عن تنزيه وتسبيح البارئ العزيز الحكيم، وتمهّد الأرضية لتلقّي وقبول الحقائق والموضوعات التي تليها.
الدعوة إلى الانسجام بين القول والعمل، والابتعاد عن الدعاوى الفارغة البعيدة عن المسار العملي. 3 الدعوة إلى الجهاد بيقين ثابت وعزم راسخ. 4 الإشارة إلى موقف اليهود من العهود ونقضهم لها، بالإضافة إلى بشارة السيّد المسيح (عليه السلام) بظهور الإسلام العظيم.
الضمان الإلهي لانتصار الإسلام على كافّة الأديان. 6 الحثّ والتأكيد على الجهاد واستعراض المثوبات الدنيوية والأخروية للمجاهدين في سبيل الحقّ.
استعراض مختصر لحياة حواري السيّد المسيح (عليه السلام) والدعوة لاستلهام الدروس من سيرتهم.
ومن خلال نظرة شاملة لموضوعات هذه السورة الشريفة نلاحظ أنّ المحور الأساس لها هو الإسلام والجهاد.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه:"سَبّحَ لِلّهِ ما فِي السّمَوَاتِ "السبع "وَما فِي الأرْضِ" من الخلق، مُذعنين له بالألوهة والربوبية.
"وَهُوَ العَزِيزُ" في نقمته ممن عصاه منهم، فكفر به، وخالف أمره "الْحَكِيمُ" في تدبيره إياهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض} قال ههنا: {سبح} وقال في مواضع أخر: {يسبح} [الجمعة: 1والتغابن: 1 و..] ليعلم أن {يسبح} غير منقطع، وأنه قد سبح حين كان، ويسبح إلى أن يكون. وفيه تسفيه أولئك الكفرة المتمردة، وذلك أن التسبيح والثناء في الشاهد إنما يرجعان إلى المسبح والمثني، لأنه لا يثني إلا على من استحق الثناء، ولا يسبح إلا من يستحقه. فإنما تسبيح المسبح وثناؤه خضوع له، وتقرب إليه، وذلك يزيده شرفا ونبلا. فكأن الله عز وجل أخبر أنه خضع له تعالى واستسلم له وأتى بما فيه شرف له وزين وتقرب إلى ربه، إلا الكفرة فإنهم تركوا التسبيح لله تعالى مع ما فيه من نبلهم وشرفهم وزينتهم، والله الموفق.
وقوله تعالى: {وهو العزيز الحكيم}: {العزيز} يدل على أنه عزيز في ذاته، وإن ترك الكفرة التسبيح إياه لا يذله، بل هو عزيز منيع.
وقوله تعالى: {الحكيم} يعني حكيم حين جعل في الأشياء المتضادة علم ربوبيته وآية وحدانيته.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... {العزيز} في سلطانه وقدرته، و {الحكيم} في أفعاله وتدبيره...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{سبح لله} أي أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم الذي له {ما في السموات} من جميع الأشياء التي لا يغفل من أفلاكها ونجومها وغير ذلك... {وما في الأرض} أي بامتثال جميع ما يراد منه مما هو كالمأمور بالنسبة إلى أفعال العقلاء من نزول المياه وإخراج النبات من النجم والشجر وإنضاج الحبوب والثمار -وغير ذلك من الأمور الصغار والكبار...
. {وهو} أي وحده لا شريك له {العزيز} أي العظيم النفع الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء، ويعسر الوصول إليه {الحكيم} أي الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} أي أذعن لله كل خلقه العلوي والسفلي وانقاد لتسخيره ودل على ألوهيته وربوبيته.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تجيء هذه التسبيحة من الوجود كله لله العزيز الحكيم، في مطلع السورة التي تعلن للمسلمين أن دينهم هو الحلقة الأخيرة في دين الله؛ وأنهم هم الأمناء على هذا الدين الذي يوحد الله، وينكر على الكافرين المشركين كفرهم وشركهم، والذي يدعوهم للجهاد لنصرته، وقد قدر الله أن يظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فيوحي هذا المطلع أن الأمانة التي يقوم عليها المسلمون هي أمانة الوجود كله؛ وأن العقيدة التي يطلب إليهم الجهاد فيها هي عقيدة كل ما في السماوات وما في الأرض؛ وأن ظهور هذا الدين على الدين كله، هو ظاهرة كونية تتسق مع اتجاه الكون كله إلى الله العزيز الحكيم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مناسبة هذه الفاتحة لما بعدها من السورة بيان أن الكافرين محقوقون بأن تقاتلوهم لأنهم شذوا عن جميع المخلوقات فلم يسبحوا الله ولم يصفوه بصفات الكمال إذ جعلوا له شركاء في الإلهية. وفيه تعريض بالذين أخلفوا ما وعدوا بأنهم لم يؤدُّوا حق تسبيح الله، لأن الله مستحق لأن يوفّى بعهده في الحياة الدنيا وأن الله ناصر الذين آمنوا على عدوّهم...
وفي إجراء وصف {العزيز} عليه تعالى هنا إيماء إلى أنه الغالب لعدوّه فما كان لكم أن تَرهَبُوا أعداءه فتفرّوا منهم عند اللقاء. وإجراء صفة {الحكيم} إن حملت على معنى المتصف بالحكمة أن الموصوف بالحكمة لا يأمركم بجهاد العدوّ عبثاً ولا يخليهم يغلبونكم. وإن حملت على معنى المُحكِم للأمور فكذلك...