وبينما هذا المشهد معروض . القوم في سعارهم المريض يستبشرون ويتلمظون . ولوط يدافعهم ويستثير نخوتهم ، ويستجيش وجدانهم ، ويحرك دواعي الفطرة السليمة فيهم ، وهم في سعارهم مندفعون . .
بينما المشهد البشع معروض على هذا النحو المثير يلتفت السياق خطابا لمن يشهد ذلك المشهد ، على طريقة العرب في كلامهم بالقسم :
( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ) . .
لتصوير حالتهم الأصيلة الدائمة التي لا يرجى معها أن يفيقوا ولا أن يسمعوا هواتف النخوة والتقوى والفطرة السليمة .
وقوله : لَعَمْرُكَ يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وحياتك يا محمد ، إن قومك من قريش لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ يقول : لفي ضلالتهم وجهلهم يتردّدون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا سعيد بن زيد ، قال : حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوّزاء ، عن ابن عباس ، قال : ما خلق الله وما ذرأ وما نفسا أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال الله تعالى ذكره : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضْرمي ، قال : حدثنا الحسين بن أبي جعفر ، قال : حدثنا عمرو بن مالك ، عن أبي الجوزاء ، عن ابن عباس ، في قول الله : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ وهي كلمة من كلام العرب لفي سكرتهم : أي في ضلالتهم ، يعمهون : أي يلعبون .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، قال : سألت الأعمش ، عن قوله : لَعَمْرُكَ إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : لفي غفلتهم يتردّدون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فِي سَكْرَتِهِمْ قال : في ضلالتهم . يَعْمَهُونَ قال : يلعبون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال مجاهد : يَعْمَهُونَ قال : يتردّدون .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : لَعَمْرُكَ يقول : لعيْشُك . إنّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال : يتمادَوْنَ .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : كانوا يكرهون أن يقول الرجل : لعمري ، يرونه كقوله : وَحَيَاتِي .
قال القاضي أبو محمد : والقسم ب { لعمرك } في القرآن ، وب «لعمري » ونحوه في أشعار العرب وفصيح كلامها في غير موضع .
لعمري وما عمري عليَّ بهين{[7203]} . . . وقوله الآخر : [ الوافر ]
لعمر أبيك ما نسب المعالي . . . وكقول الآخر : [ طرفة بن العبد ] [ الطويل ]
لعمرك إن الموت ما أخطأَ الفتى . . . لكالطِّوَلِ المرخى وثنياه باليد{[7204]}
والعرب تقول لعمر الله ، ومنه قول الشاعر :
إذا رضيت عليَّ بنو قشير . . . لعمر الله أعجبني رضاها{[7205]}
ولعمر من جعل الشهور علامة . . . فيها فبين نصفها وكمالها{[7206]}
ويروى وهلالها ، وقال بعض أصحاب المعاني ، لا يجوز هذا لأنه لا يقال لله تعالى عمر ، وإنما يقال بقاء أزلي ذكره الزهراوي ، وكره إبراهيم النخعي أن يقول الرجل لعمري لأنه حلف بحياة نفسه ، وذلك من كلام ضعفة الرجال ، ونحو هذا ، قول مالك في «لعمري » و «لعمرك » أنها ليست بيمين ، وقال ابن حبيب ينبغي أن تصرف { لعمرك } في الكلام اقتداء بهذه الآية ، و { يعمهون } يرتبكون ويتحيرون ، والضمائر في { سكرتهم } يراد بها قوم لوط المذكورون ، وذكر الطبري أن المراد قريش ، وهذا بعيد لأنه ينقطع مما قبله ومما بعده ، وقوله { لفي سكرتهم } مجاز وتشبيه ، أي في ضلالتهم وغفلتهم وإعراضهم عن الحق ولهوهم ، و { يعمهون } معناه يتردون في حيرتهم ، و { مشرقين } معناه قد دخلوا في الإشراق وهو سطوع ضوء الشمس وظهوره قاله ابن زيد .