قوله تعالى : { وتمت كلمة ربك } ، قرأ أهل الكوفة ويعقوب { كلمة } على التوحيد ، وقرأ الآخرون { كلمات } بالجمع ، وأراد بالكلمات أمره ونهيه ووعده ووعيده .
قوله تعالى : { صدقاً وعدلاً } ، أي : صدعاً في الوعد والوعيد ، وعدلاً في الأمر والنهي ، قال قتادة ومقاتل : صدقاً فيما وعد ، وعدلاً فيما حكم .
قوله تعالى : { لا مبدل لكلماته } ، قال ابن عباس : لا راد لقضائه ، ولا مغير لحكمه ، ولا خلف لوعده .
قوله تعالى : { وهو السميع العليم } ، قيل : أراد بالكلمات القرآن ( لا مبدل له ) ، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون .
ثم وصف تفصيلها فقال : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا } أي : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأمر والنهي . فلا أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا الكتاب العزيز ، ولا أعدل من أوامره ونواهيه { لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } [ حيث حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق ، وبغاية الحق ، فلا يمكن تغييرها ، ولا اقتراح أحسن منها ]{[302]} .
{ وَهُوَ السَّمِيعُ } لسائر الأصوات ، باختلاف اللغات على تفنن الحاجات . { الْعَلِيمُ } الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ، والماضي والمستقبل .
ويمضي السياق في هذا الاتجاه ؛ يقرر أن كلمة الله الفاصلة قد تمت ؛ وأنه لا مبدل لها بفعل الخلق ، بالغاً ما بلغ كيدهم :
( وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ، لا مبدل لكلماته ، وهو السميع العليم ) . .
لقد تمت كلمة الله - سبحانه - صدقاً - فيما قال وقرر - وعدلاً - فيما شرع وحكم - فلم يبق بعد ذلك قول لقائل في عقيدة أو تصور أو أصل أو مبدأ أو قيمة أو ميزان . ولم يبق بعد ذلك قول لقائل في شريعة أو حكم ، او عادة أو تقليد . . ولا معقب لحكمه ولا مجير عليه . .
الذي يسمع ما يقوله عباده ، ويعلم ما وراءه ، كما يعلم ما يصلح لهم ، وما يصلحهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَمّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاّ مُبَدّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : وكملت كلمة ربك ، يعني القرآن ، سماه كلمة كما تقول العرب للقصيدة من الشعر يقولها الشاعر : هذه كلمة فلان .
صِدْقا وَعَدْلاً يقول : كملت كلمة ربك من الصدق والعدل ، والصدقُ والعدلُ نصبا على التفسير للكلمة ، كما يقال : عندي عشرون درهما .
لا مُبَدّلَ لِكَلَماتِهِ يقول : لا مغّير لما أخبر في كتبه أنه كائن من وقوعه في حينه وأجله الذي أخبر الله أنه واقع فيه . وذلك نظير قوله جلّ ثناؤه : { يُرِيدُونَ أنْ يُبَدّلُوا كَلامَ اللّهِ قُلْ لَنْ تَتّبِعُونا كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ } فكانت إرادتهم تبديل كلام الله مسألتهم نبيّ الله أن يتركهم يحضرون الحرب معه ، وقولهم له ولمن معه من المؤمنين : ذَرُونا نَتّبِعْكُمْ بعد الخبر الذي كان الله أخبرهم تعالى ذكره في كتابه بقوله : فإنْ رَجَعَكَ اللّهُ إلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فاسْتأذَنُوكَ للْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّا . . . الاَية ، فحاولوا تبديل كلام الله وخبره بأنهم لن يخرجوا مع نبيّ الله في غزاة ، ولن يقاتلوا معه عدوّا بقولهم لهم : { ذَرُونا نَتّبِعْكُمْ }فقال الله جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يريدون أن يبدّلوا بمسألتهم إياهم ذلك كلام الله وخبره قُلْ لَنْ تَتّبِعُونا كَذَلِكُمْ قالَ اللّهُ مِنْ قَبْل .
فكذلك معنى قوله : لا مُبَدّلَ لِكَلِماتِهِ إنما هو : لا مغير لما أخبر عنه من خبر أنه كائن فيبطل مجيئه وكونه ووقوعه ، على ما أخبر جلّ ثناؤه لأنه لا يزيد المفترون في كتب الله ولا ينقصون منها وذلك أن اليهود والنصارى لا شكّ أنهم أهل كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ، وقد أخبر جلّ ثناؤه أنهم يحرّفون غير الذي أخبر أنه لا مبدّل له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَتمّتْ كَلِمَةُ رَبّك صِدْقا وَعَدْلاً لا مُبَدّلَ لِكَلِماتِهِ يقول : صدقا وعدلاً فيما حكم .
وأما قوله : { وَهُوَ السّمِيعُ العَلِيمُ }فإن معناه : والله السميع لما يقول هؤلاء العادلون بالله ، المقسمون بالله جهد أيمانهم : لئن جاءتهم آية ليؤمننّ بها ، وغير ذلك من كلام خلقه ، العليم بما تَئُول إليه أيمانهم من برّ وصدق وكذب وحنث وغير ذلك من أمور عباده .
{ تمت } في هذا الموضع بمعنى استمرت وصحت في الأزل صدقاً وعدلاً ، وليس بتمام من نقص ، ومثله ما وقع في كتاب السيرة من قولهم وتم حمزة على إسلامه في الحديث مع أبي جهل ، و «الكلمات » ما نزل على عباده ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «كلمة » بالإفراد هنا وفي يونس في الموضعين وفي حم المؤمن . وقرأ نافع وابن عامر جميع ذلك «كلماتُ » بالجمع . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا فقط «كلمات » بالجمع ، وذهب الطبري إلى أنه القرآن كما يقال كلمة فلان في قصيدة الشعر والخطبة البليغة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي بعيد معترض ، وإنما القصد العبارة عن نفوذ قوله تعالى : { صدقاً } فيما تضمنه من خبر { وعدلاً } فيما تضمنه من حكم ، هما مصدران في موضع الحال ، قال الطبري نصباً على التمييز وهذا غير صواب ، و { لا مبدل لكلماته } معناه في معانيها بأن يبين أحد أن خبره بخلاف ما أخبر به أو يبين أن أمره لا ينفذ ، والمثال من هذا أن الله تعالى قال لنبيه عليه السلام { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج } إلى { الخالفين }{[5069]} ، فقال المنافقون بعد ذلك للنبي عليه السلام وللمؤمنين ذرونا نتبعكم فقال الله لنبيه : { يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل }{[5070]} أو في قوله { فقل لن تخرجوا معي أبداً }{[5071]} لأن مضمنه الخبر بأن لا يباح لهم خروج ، وأما الألفاظ فقد بدلتها بنو إسرائيل وغيرتها ، هذا مذهب جماعة من العلماء ، وروي عن ابن عباس أنهم إنما بدلوا بالتأويل والأول أرجح ، وفي حرف أبي بن كعب ، «لا مبدل لكلمات الله » .