قوله تعالى : { ولما بلغ أشده } قال الكلبي : الأشد ما بين ثمانية عشرة سنة إلى ثلاثين سنة . وقال مجاهد وغيره : ثلاث وثلاثون سنة ، { واستوى } أي : بلغ أربعين سنة ، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقيل : استوى انتهى شبابه { آتيناه حكماً وعلماً } أي : الفقه والعقل والعلم في الدين ، فعلم موسى وحكم قبل أن يبعث نبياً ، { وكذلك نجزي المحسنين } .
{ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ } من القوة والعقل واللب ، وذلك نحو أربعين سنة في الغالب ، { وَاسْتَوَى } كملت فيه تلك الأمور { آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } أي : حكما يعرف به الأحكام الشرعية ، ويحكم به بين الناس ، وعلما كثيرا .
{ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه ، نعطيهم علما وحكما بحسب إحسانهم ، ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ وَاسْتَوَىَ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلمّا بَلَغَ موسى أشُدّهُ ، يعني حان شدّه بدنه وقواه ، وانتهى ذلك منه . وقد بّينا معنى الأشدّ فيما مضى بشواهده ، فأغني ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : وَاسْتَوَى يقول : تناهى شبابه ، وتمّ خلقه واستحكم . وقد اختلف في مبلغ عدد سني الاستواء ، فقال بعضهم : يكون ذلك في أربعين سنة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، في قوله : وَاسْتَوَى قال : أربعين سنة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلَمّا بَلَغَ أشُدّهُ قال : ثلاثا وثلاثين سنة . قوله : وَاسْتَوَى قال : بلغ أربعين سنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس وَلَما بَلَغَ أشُدّهُ قال : بضعا وثلاثين سنة .
قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَلما بَلَغَ أشُدّهُ قال : ثلاثا وثلاثين سنة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة أشُدّهُ وَاسْتَوَى قال : أربعين سنة ، وأشدّه : ثلاثا وثلاثين سنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَلمّا بَلَغَ أشُدّهُ واسْتَوَى قال : كان أبي يقول : الأشدّ : الجلَد ، والاستواء : أربعون سنة .
وقال بعضهم : يكون ذلك في ثلاثين سنة .
وقوله : آتَيْناهُ حُكْما وَعِلْما يعني الحكم : الفهم بالدين والمعرفة . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد آتَيْناهُ حُكْما وَعِلْما قال : الفقه والعقل والعمل قبل النبوّة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد آتَيْناه حُكْما وَعِلْما قال : الفقه والعمل قبل النبوّة .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق وَلمّا بَلَغَ أشُدّهُ وَاسْتَوَى آتاه الله حكما وعلما وفقها في دينه ودين آبائه ، وعلما بما في دينه وشرائعه وحدوده .
وقوله : وكذلكَ نَجّزِي المُحْسِنِينَ يقول تعالى ذكره : كما جزينا موسى على طاعته إيانا وإحسانه بصبره على أمرنا ، كذلك نجزي كلّ من أحسن من رسلنا وعبادنا ، فصبر على أمرنا وأطاعنا ، وانتهى عما نهيناه عنه .
و «الأشد » ، جمع شدة كنعمة وأنعم ، هذا قول سيبويه وقال غيره : «الأشد » جمع شد وقالت فرقة «الأشد » اسم مفرد وليس بجمع ، واختلف في قدر الأشد من السنين ، فقالت فرقة : بلوغ الحلم وهي نحو خمسة عشر عاماً ، وقالت فرقة : ثمانية عشر عاماً ، وقال السدي : عشرون ، وقالت فرقة : خمسة وعشرون ، وقالت فرقة : ثلاثون ، وقال مجاهد وابن عباس : ثلاثة وثلاثون ، وقالت فرقة عظيمة : ستة وثلاثون ، وقال مجاهد وقتادة «الاستواء » أربعون سنة ، وقال مكي وقيل هو ستون سنة وهذا ضعيف ، و «الأشد » شدة البدن واستحكام أسره وقوته ، و { استوى } معناه تكامل عقله وحزمه ، وذلك عند الجمهور مع الأربعين ، و «الحكم » الحكمة ، و «العلم » ، والمعرفة بشرع إبراهيم عليه السلام وهي مقدمة نبوته عليه السلام .
هذا اعتراض بين أجزاء القصة المرتبة على حسب ظهورها في الخارج . وهذا الاعتراض نشأ عن جملة { ولتعلم أن وعد الله حق } [ القصص : 13 ] فإن وعد الله لها قد حكي في قوله تعالى { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } [ القصص : 7 ] . فلما انتهى إلى حكاية رده إلى أمه بقوله { فرددناه إلى أمه كي تقرَّ عينُها } [ القصص : 13 ] إلى آخره كمّل ما فيه وفاء وعد الله إياها بهذا الاستطراد في قوله { ولما بلغ أشدّه واستوى ءاتيناه حكماً وعلماً } وإنما أوتي الحكم أعني النبوءة بعد خروجه من أرض مدين كما سيجيء في قوله تعالى { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله } [ القصص : 29 ] . وتقدم نظير هذه الآية في سورة يوسف ، إلا قوله { واستوى } فقيل : إن { استوى } بمعنى بلغ أشده ، فيكون تأكيداً ، و الحق أن الأشد كمال القوة لأن أصله جمع شدة بكسر الشين بوزن نعمة وأنعم وهي اسم هيئة بمعنى القوة ثم عومل معاملة المفرد . وأن الاستواء : كمال البنية كقوله تعالى في وصف الزرع { فاستغلظ فاستوى على سوقه } [ الفتح : 29 ] ، ولهذا أريد لموسى الوصف بالاستواء ولم يوصف يوسف إلا ببلوغ الأشد خاصة لأن موسى كان رجلاً طوالاً كما في الحديث « كأنه من رجال شنُؤة » فكان كامل الأعضاء ولذلك كان وكزه القبطي قاضياً على الموكوز . والحكم : الحكمة ، والعلم : المعرفة بالله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما بلغ} موسى {أشده}... {واستوى} يعني أربعين سنة {آتيناه حكما وعلما} يقول: أعطيناه علما وفهما، {وكذلك نجزي المحسنين} يقول: هكذا نجزي من أحسن، يعني: من آمن بالله عز وجل.
القرطبي: قال مالك: الأشد: الحلُم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلمّا بَلَغَ" موسى "أشُدّهُ"، يعني حان شدّة بدنه وقواه، وانتهى ذلك منه...
وقوله: "وَاسْتَوَى "يقول: تناهى شبابه، وتمّ خلقه واستحكم. وقد اختلف في مبلغ عدد سني الاستواء؛ فقال بعضهم: يكون ذلك في أربعين سنة... عن ابن عباس "وَلَما بَلَغَ أشُدّهُ" قال: بضعا وثلاثين سنة.
وقال بعضهم: يكون ذلك في ثلاثين سنة...
وقوله: "آتَيْناهُ حُكْما وَعِلْما" يعني الحكم: الفهم بالدين والمعرفة... عن مجاهد "آتَيْناهُ حُكْما وَعِلْما" قال: الفقه والعقل والعمل قبل النبوّة...
وقوله: "وكذلكَ نَجّزِي المُحْسِنِينَ" يقول تعالى ذكره: كما جزينا موسى على طاعته إيانا وإحسانه بصبره على أمرنا، كذلك نجزي كلّ من أحسن من رسلنا وعبادنا، فصبر على أمرنا وأطاعنا، وانتهى عما نهيناه عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعض أهل التأويل: الأشد هو ما بين ثماني عشرة سنة وثلاثين سنة، ثم ما بين الثلاثين إلى الأربعين استواء الشدة، ثم يأخذ بعد الأربعين في النقصان... وأصل الأشد أن يشتد كل شيء منه، وصار يحتمل ما قصد به وجعل فيه، ويدخل في ذلك العقل وكل شيء، {واستوى} أي: استوى ذلك واستحكم، وصار بحيث يحتمل ذلك...
وقال أبو عوسجة والقتبي: {واستوى} أي استحكم وانتهى شبابه واستقر، فلم تكن فيه زيادة...
{آتيناه حكما وعلما} أي آتيناه الحكم الذي يحكم به بين الناس {وعلما} بمصالح نفسه ومصالح الخلق.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا كَمُلَتْ سِنُّه وتمَّ عقلُه، واستوى كمال خصاله {ءَاتَيْنَاهُ حُكْماً}: أي أَتْمَمْنَا له التحصيل، وَوَفَّرْنا له العلم، وبذلك جَرَتْ سُنَّتُنا مع الأكابر والأنبياء.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقيل: معناه آتيناه سيرة الحكماء العلماء، وسمتهم قبل البعث، فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه.
اعلم أن في قوله: {بلغ أشده واستوى} قولين:
أحدهما: أنهما بمعنى واحد وهو استكمال القوة واعتدال المزاج والبنية.
والثاني: وهو الأصح أنهما معنيان متغايران. ثم اختلفوا على وجوه؛
أحدها: وهو الأقرب أن الأشد عبارة عن كمال القوة الجسمانية البدنية، والاستواء عبارة عن كمال القوة العقلية.
وثانيها: الأشد عبارة عن كمال القوة، والاستواء عبارة عن كمال البنية والخلقة. وثالثها: الأشد عبارة عن البلوغ، والاستواء عبارة عن كمال الخلقة.
ورابعها: قال ابن عباس الأشد ما بين الثمانية عشرة سنة إلى الثلاثين ثم من الثلاثين سنة إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة ولا نقصان، ومن الأربعين يأخذ في النقصان، وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما حق، لأن الإنسان يكون في أول العمر في النمو والتزايد ثم يبقى من غير زيادة ولا نقصان، ثم يأخذ في الانتقاص فنهاية مدة الازدياد من أول العمر إلى العشرين ومن العشرين إلى الثلاثين يكون التزايد قليلا والقوة قوية جدا، ثم من الثلاثين إلى الأربعين يقف فلا يزداد ولا ينتقص ومن الأربعين إلى الستين يأخذ في الانتقاص الخفي، ومن الستين إلى آخر العمر يأخذ في الانتقاص البين الظاهر، ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة والحكمة فيه ظاهرة لأن الإنسان يكون إلى رأس الأربعين قواه الجسمانية من الشهوة والغضب والحس قوية مستكملة فيكون الإنسان منجذبا إليها فإذا انتهى إلى الأربعين أخذت القوى الجسمانية في الانتقاص، والقوة العقلية في الازدياد فهناك يكون الرجل أكمل ما يكون، فلهذا السر اختار الله تعالى هذا السن للوحي...
أما قوله: {آتيناه حكما وعلما} ففيه وجهان؛
الأول: أنها النبوة وما يقرن بها من العلوم والأخلاق. وعلى هذا التقدير ليس في الآية دليل على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده، لأن الواو في قوله: {ودخل المدينة} لا تفيد الترتيب.
الثاني: آتيناه الحكمة والعلم قال تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}. وهذا القول أولى لوجوه؛
أحدها: أن النبوة أعلى الدرجات البشرية فلابد وأن تكون مسبوقة بالكمال في العلم والسيرة المرضية التي هي أخلاق الكبراء والحكماء.
وثانيها: أن قوله: {وكذلك نجزي المحسنين} يدل على أنه إنما أعطاه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه والنبوة لا تكون جزاء على العمل.
وثالثها: أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة، لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله: {وكذلك نجزي المحسنين} لأن قوله: {وكذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من الحكم والعلم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في عبادة اللّه المحسنين لخلق اللّه، نعطيهم علما وحكما بحسب إحسانهم، ودل هذا على كمال إحسان موسى عليه السلام.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويسكت سياق القصة بعد هذا عن السنوات الطوال ما بين مولد موسى -عليه السلام- والحلقة التالية التي تمثل شبابه واكتماله. فلا نعلم ماذا كان بعد رده إلى أمه لترضعه. ولا كيف تربى في قصر فرعون. ولا كيف كانت صلته بأمه بعد فترة الرضاعة. ولا كيف كان مكانه في القصر أو خارجه بعد أن شب وكبر إلى أن تقع الأحداث التالية في الحلقة الثانية. ولا كيف كانت عقيدته، وهو الذي يصنع على عين الله، ويعد لوظيفته، في وسط عباد فرعون وكهنته.. يسكت سياق القصة عن كل هذا ويبدأ الحلقة الثانية مباشرة حين بلغ أشده واستوى، فقد آتاه الله الحكمة والعلم، وجزاه جزاء المحسنين: (ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما. وكذلك نجزي المحسنين)...
فهل ظل موسى في قصر فرعون، ربيبا ومتبنى لفرعون وزوجه حتى بلغ هذه السن؟ أم إنه افترق عنهما، واعتزل القصر، ولم تسترح نفسه للحياة في ظل تلك الأوضاع الآسنة التي لا تستريح لها نفس مصفاة مجتباة كنفس موسى -عليه السلام-؟ وبخاصة أن أمه لا بد أن تكون قد عرفته من هو ومن قومه وما ديانته. وهو يرى كيف يسام قومه الخسف البشع والظلم الشنيع، والبغي اللئيم؛ وهو يرى أبشع صورة للفساد الشائع الأثيم. ليس لدينا من دليل. ولكن سياق الحوادث بعد هذا يلهم شيئا من هذا كما سيجيئ؛ والتعقيب على إتيانه الحكمة والعلم: (وكذلك نجزي المحسنين) يشي كذلك بأنه أحسن فأحسن الله إليه بالحكمة والعلم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المقصود والمراد من الحكم والعلم هما المعرفة والنظرة الثاقبة والقدرة على القضاء الصحيح وما شابه ذلك، وقد منح الله هذه الأُمور لموسى (عليه السلام) لطهارته وصدقه وأعماله الصالحة كما ذكرنا آنفاً. ويفهم من هذا التعبير إجمالا أنّ موسى (عليه السلام) لم يتأثر بلون المحيط الذي عاشه في قصر فرعون، وكان يسعى إلى تحقيق العدل والحق ما استطاع إلى ذلك سبيلا.