مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُۥ وَٱسۡتَوَىٰٓ ءَاتَيۡنَٰهُ حُكۡمٗا وَعِلۡمٗاۚ وَكَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (14)

قوله تعالى : { ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين } .

اعلم أن في قوله : { بلغ أشده واستوى } قولين : أحدهما : أنهما بمعنى واحد وهو استكمال القوة واعتدال المزاج والبنية . والثاني : وهو الأصح أنهما معنيان متغايران ثم اختلفوا على وجوه . أحدها : وهو الأقرب أن الأشد عبارة عن كمال القوة الجسمانية البدنية ، والاستواء عبارة عن كمال القوة العقلية . وثانيها : الأشد عبارة عن كمال القوة ، والاستواء عبارة عن كمال البنية والخلقة . وثالثها : الأشد عبارة عن البلوغ ، والاستواء عبارة عن كمال الخلقة . ورابعها : قال ابن عباس الأشد ما بين الثمانية عشرة سنة إلى الثلاثين ثم من الثلاثين سنة إلى الأربعين يبقى سواء من غير زيادة ولا نقصان ، ومن الأربعين يأخذ في النقصان ، وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنهما حق ، لأن الإنسان يكون في أول العمر في النمو والتزايد ثم يبقى من غير زيادة ولا نقصان ، ثم يأخذ في الانتقاص فنهاية مدة الازدياد من أول العمر إلى العشرين ومن العشرين إلى الثلاثين يكون التزايد قليلا والقوة قوية جدا ، ثم من الثلاثين إلى الأربعين يقف فلا يزداد ولا ينتقص ومن الأربعين إلى الستين يأخذ في الانتقاص الخفي ، ومن الستين إلى آخر العمر يأخذ في الانتقاص البين الظاهر ، ويروى أنه لم يبعث نبي إلا على رأس أربعين سنة والحكمة فيه ظاهرة لأن الإنسان يكون إلى رأس الأربعين قواه الجسمانية من الشهوة والغضب والحس قوية مستكملة فيكون الإنسان منجذبا إليها فإذا انتهى إلى الأربعين أخذت القوى الجسمانية في الانتقاص ، والقوة العقلية في الازدياد فهناك يكون الرجل أكمل ما يكون ، فلهذا السر اختار الله تعالى هذا السن للوحي .

المسألة الثانية : اختلفوا في واحد الأشد ، قال الفراء : الأشد واحدها شد في القياس ولم يسمع لها بواحد . وقال أبو الهيثم : واحدة الأشد شدة ، كما أن واحدة الأنعم نعمة ، والشدة القوة والجلادة .

أما قوله : { آتيناه حكما وعلما } ففيه وجهان الأول : أنها النبوة وما يقرن بها من العلوم والأخلاق .

وعلى هذا التقدير ليس في الآية دليل على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده ، لأن الواو في قوله : { ودخل المدينة } لا تفيد الترتيب . الثاني : آتيناه الحكمة والعلم قال تعالى : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة } وهذا القول أولى لوجوه . أحدها : أن النبوة أعلى الدرجات البشرية فلابد وأن تكون مسبوقة بالكمال في العلم والسيرة المرضية التي هي أخلاق الكبراء والحكماء . وثانيها : أن قوله : { وكذلك نجزي المحسنين } يدل على أنه إنما أعطاه الحكم والعلم مجازاة على إحسانه والنبوة لا تكون جزاء على العمل . وثالثها : أن المراد بالحكم والعلم لو كان هو النبوة ، لوجب حصول النبوة لكل من كان من المحسنين لقوله : { وكذلك نجزي المحسنين } لأن قوله : { وكذلك } إشارة إلى ما تقدم ذكره من الحكم والعلم .