قوله تعالى : { للذين لا يؤمنون بالآخرة } ، يعني : لهؤلاء الذين يصفون لله البنات ، ولأنفسهم البنين ، { مثل السوء } ، صفة السوء من الاحتياج إلى الولد ، وكراهية الإناث ، وقتلهن خوف الفقر ، { ولله المثل الأعلى } ، الصفة العليا ، وهي التوحيد وأنه لا إله إلا هو . وقيل : جميع صفات الجلال والكمال ، من العلم ، والقدرة ، والبقاء ، وغيرها من الصفات . قال ابن عباس : " مثل السوء " : النار ، و " المثل الأعلى " : شهادة أن لا إله إلا الله .
ولما كان هذا من أمثال السوء ، التي نسبها إليه أعداؤه المشركون ، قال تعالى : { لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ } ، أي : المثل الناقص والعيب التام ، { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } ، وهو : كل صفة كمال ، وكل كمال في الوجود ، فالله أحق به ، من غير أن يستلزم ذلك نقصا بوجه ، وله المثل الأعلى في قلوب أوليائه ، وهو التعظيم والإجلال والمحبة والإنابة والمعرفة . { وَهُوَ الْعَزِيزُ } ، الذي قهر جميع الأشياء ، وانقادت له المخلوقات بأسرها ، { الْحَكِيمُ } ، الذي يضع الأشياء مواضعها ، فلا يأمر ولا يفعل ، إلا ما يحمد عليه ، ويثنى على كماله فيه .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِلّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ مَثَلُ السّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه أن قوله : وَإذَا بُشّرَ أحدَهُمْ بالأنْثَى ظَلّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ ، والآية التي بعدها مثل ضربه الله لهؤلاء المشركين الذين جعلوا لله البنات ، فبين بقوله : للّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ بالاَخِرَةِ مَثَلُ السّوْءِ ، أنه مثل ، وعنى بقوله جلّ ثناؤه : للّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ بالاَخِرَةِ ، للذين لا يصدّقون بالمعاد والثواب والعقاب من المشركين . مَثَلُ السّوْءِ : وهو القبيح من المثل ، وما يسوء من ضرب له ذلك المثل . ولِلّهِ المَثَلُ الأعْلى ، يقول : ولله المثل الأعلى ، وهو الأفضل والأطيب ، والأحسن ، والأجمل ، وذلك التوحيد والإذعان له بأنه لا إله غيره .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَلِلّهِ المَثَلُ الأعْلَى قال : شهادة أن لا إله إلا الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " للّذِينَ لا يُوءْمِنُونَ بالاَخِرَةِ مَثَلُ السّوْءِ وَلِلّهِ المَثَلْ الأعْلَى " ، الإخلاص والتوحيد .
وقوله : " وَهُوَ العَزِيرُ الحَكِيمُ " ، يقول تعالى ذكره : والله ذو العزّة التي لا يمتنع عليه معها عقوبة هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم في هذه الآيات ، ولا عقوبة من أراد عقوبته على معصيته إياه ، ولا يتعذّر عليه شيء أراده وشاءه ؛ لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره ، الحكيم في تدبيره ، فلا يدخل تدبيره خَلَل ولا خطأ .
قالت فرقة : { مثل } ، في هذه الآية بمعنى صفة ، أي : لهؤلاء صفة السوء ، ولله الوصف الأعلى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يضطر إليه ، لأنه خروج عن اللفظ ، بل قوله : { مثل } ، على بابه ، وذلك أنهم إذا قالوا : إن البنات لله ؛ فقد جعلوا له مثلاً أبا البنات من البشر ، وكثرة البنات عندهم مكروه ذميم ، فهو مثل السوء الذي أخبر الله تعالى أنه لهم ، ليس في البنات فقط ، لكن لما جعلوه هم في البنات ، جعله هو لهم على الإطلاق في كل سوء ، ولا غاية أبعد من عذاب النار ، وقوله : { ولله المثل الأعلى } ، على الإطلاق أيضاً في الكمال المستغني ، وقال قتادة : { المثل الأعلى } ، لا إله إلا الله ، وباقي الآية بين .
هذه الجملة معترضة جواباً عن مقالتهم التي تضمّنها قوله تعالى : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى } [ سورة النحل : 58 ] فإن لها ارتباطاً بجملة { ويجعلون لله البنات سبحانه } [ سورة النحل : 57 ] كما تقدّم ، فهي بمنزلة ، جملة سبحانه ، غير أن جملة سبحانه جواب بتنزيه الله عمّا نسبوه إليه ، وهذه جواب بتحقيرهم على ما يعاملون به البنات مع نسبتهم إلى الله هذا الصّنف المحقرّ عندهم .
وقد جرى الجواب على استعمال العرب عندما يسمعون كلاماً مكروهاً أو منكراً أن يقولوا للنّاطق به : بِفيك الحَجَر ، وبفيك الكَثْكَث ، ويقولون : تربت يداك ، وتربت يمينك ، واخسأ .
وكذلك جاء قوله تعالى { للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء } شتماً لهم .
والمَثَل : الحال العجيبة في الحسن والقبح ، وإضافته إلى السوء للبيان .
وعُرّفوا ب « الذين لا يؤمنون بالآخرة » لأنهم اشتهروا بهذه الصّلة بين المسلمين ، كقوله تعالى : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون } [ سورة النحل : 22 ] ، وقوله : { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } [ سورة سبأ : 8 ] .
وجملة { ولله المثل الأعلى } عطفت على جملة { للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء } لأن بها تكملة إفساد قولهم وذمّ رأيهم ، إذ نسبوا إلى الله الولد وهو من لوازم الاحتياج والعجز . ولمّا نسبوا إليه ذلك خصّوه بأخسّ الصنفين عندهم ، كما قال تعالى : { ويجعلون لله ما يكرهون } [ سورة النحل : 62 ] ، وإن لم يكن كذلك في الواقع ولكن هذا جرى على اعتقادهم ومؤاخذة لهم برأيهم .
و{ الأعلى } تفضيل ، وحذف المفضّل عليه لقصد العموم ، أي أعلى من كل مثل في العلوّ بقرينة المقام .
والسّوْء : بفتح السين مصدر ساءه ، إذا عمل معه ما يكره . والسّوء بضم السّين الاسم ، تقدم في قوله تعالى : { يسومونكم سوء العذاب } في سورة البقرة ( 49 ) .
والمثل تقدم تفصيل معانيه عند قوله تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } في سورة البقرة ( 17 ) .
و{ العزيز الحكيم } تقدم عند قوله تعالى : { فاعلموا أن الله عزيز حكيم } في سورة البقرة ( 209 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.