6- يناظرك أولئك الفريق ، ويحاولون أن ينصروا قولهم في الأمر الحق ، وهو الخروج للجهاد ، إذ كانوا مع إخوانهم الذين خرجوا لمصادرة أموال قريش الذاهبة إلى الشام ، فلم يدركوها ، فآثر هذا الفريق العودة من بعد ما تبين أنهم منصورون ، لإعلام النبي لهم ، ولذعر المشركين منهم ، ولشدة كراهيتهم للقتال وعدم أمنهم من عواقبه ، وكانوا في ذهابهم إليه كالذي يساق إلى الموت ، وهو ينظر أسبابه ويعاينها .
قوله تعالى : { يجادلونك في الحق } ، أي : في القتال .
قوله تعالى : { بعدما تبين } ، وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك ، وقالوا : لم تعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم ، وإنما خرجنا للعير ، فذلك جدالهم بعدما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله ، وتبين صدقك في الوعد .
قوله تعالى : { كأنما يساقون إلى الموت } لشدة كراهيتهم القتال .
قوله تعالى : { وهم ينظرون } ، فيه تقديم وتأخير تقديره : وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ، يجادلونك في الحق بعدما تبين . قال ابن زيد : هؤلاء المشركون جادلوه في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يدعون إلى الإسلام لكراهيتهم إياه وهم ينظرون .
فحين تبين لهم أن ذلك واقع ، جعل فريق من المؤمنين يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ويكرهون لقاء عدوهم ، كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون .
والحال أن هذا لا ينبغي منهم ، خصوصا بعد ما تبين لهم أن خروجهم بالحق ، ومما أمر اللّه به ورضيه ، . فبهذه الحال ليس للجدال محل [ فيها ]{[337]} لأن الجدال محله وفائدته عند اشتباه الحق والتباس الأمر ، . فأما إذا وضح وبان ، فليس إلا الانقياد والإذعان .
هذا وكثير من المؤمنين لم يجر منهم من هذه المجادلة شيء ، ولا كرهوا لقاء عدوهم ، . وكذلك الذين عاتبهم اللّه ، انقادوا للجهاد أشد الانقياد ، وثبتهم اللّه ، وقيض لهم من الأسباب ما تطمئن به قلوبهم كما سيأتي ذكر بعضها .
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنُوا بقوله : يُجادِلُونَكَ فِي الحَقّ بَعْدَما تَبَيّنَ فقال بعضهم : عُني بذلك : أهل الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا معه حين توجه إلى بدر للقاء المشركين . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : لما شاور النبيّ صلى الله عليه وسلم في لقاء القوم ، وقال له سعد بن عبادة ما قال : وذلك يوم بدر ، أمر الناس ، فتعبوا للقتال ، وأمرهم بالشوكة ، وكره ذلك أهل الإيمان ، فأنزل الله : كمَا أخْرَجَكَ رَبّكَ مِنْ بَيْتِكَ بالحَقّ وَإنّ فَرِيقا مِنَ المُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي الحَقّ بَعْدَما تَبَيّنَ كأنّمَا يُساقُونَ إلى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ .
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم ذكر القوم ، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسيرهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين عرف القوم أن قريشا قد سارت إليهم ، وأنهم إنما خرجوا يريدون العير طمعا في الغنيمة ، فقال : كمَا أخْرَجَكَ رَبّكَ مِنْ بَيْتِكَ بالحَقّ . . . إلى قوله : لَكارِهُونَ أي كراهية للقاء القوم ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم .
وقال آخرون : عُني بذلك المشركون . ذكر من قال ذلك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يُجادِلُونَكَ فِي الحقّ بَعْدَما تَبَيّنَ كأنّمَا يُساقُونَ إلى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ قال : هؤلاء المشركون جادلوك في الحق كأنما يساقون إلى الموت حين يُدعون إلى الإسلام ، وهم يَنْظُرُونَ قال : وليس هذا من صفة الاَخرين ، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعقوب بن محمد ، قال : ثني عبد العزيز بن محمد ، عن ابن أخي الزهري ، عن عمه ، قال : كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر : كَأنّمَا يُسَاقُونَ إلى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العير .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس وابن إسحاق ، من أن ذلك خبر من الله عن فريق من المؤمنين أنهم كرهوا لقاء العدوّ ، وكان جدالهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن قالوا : لم يعلمنا أنا نلقى العدوّ فنستعدّ لقتالهم ، وإنما خرجنا للعير . ومما يدلّ على صحة قوله : وَإذْ يَعِدكُمُ اللّهُ إحْدَى الطّائِفَتَيْنِ أنّها لَكُم وَتَوَدّونَ أنّ غيرَ ذَاتِ الشّوكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ففي ذلك الدليل الواضح لمن فهم عن الله أن القوم قد كانوا للشوكة كارهين وأن جدالهم كان في القتال كما قال مجاهد ، كراهية منهم له ، وأن لا معنى لما قال ابن زيد ، لأن الذي قبل قوله : يُجادِلُونَكَ في الحَقّ خبر عن أهل الإيمان ، والذي يتلوه خبر عنهم ، فأن يكون خبرا عنهم أولى منه بأن يكون خبرا عمن لم يجر له ذكر .
وأما قوله : بَعْدَما تَبَيّنَ فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : بعدما تبين لهم أنك لا تفعل إلاّ ما أمرك الله . ذكر من قال ذلك .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : بَعْدَما تَبَيّنَ أنك لا تصنع إلاّ ما أمرك الله به .
وقال آخرون : معناه يجادلونك في القتال بعدما أمرت به . ذكر من قال ذلك .
رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس .
وأما قوله كأنّما يُساقُونَ إلى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فإن معناه : كأن هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدوّ من كراهتهم للقائهم إذا دعوا إلى لقائهم للقتال يساقون إلى الموت .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال قال ابن إسحاق : كأنّما يُساقُونَ إلى المَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ : أي كراهة للقاء القوم ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم .
{ يجادلونك في الحق } في إيثارك الجهاد بإظهار الحق لإيثارهم تلقي العير عليه . { بعد ما تبيّن } لهم أنهم ينصرون أينما توجهوا بأعلام الرسول عليه الصلاة والسلام . { كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون } أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه ، وكان ذلك لقلة عددهم وعدم تأهبهم إذ روي أنهم كانوا رجالة وما كان فيهم فرسان ، وفيه انتماء إلى أن مجادلتهم إنما كانت لفرط فزعهم ورعبهم .
وقرأ عبد الله بن مسعود : «في الحق بعدما بُين » بضم الباء من غير تاء ، والضمير في قوله { يجادلونك } قيل : هو للؤمنين وقيل : للمشركين ، فمن قال للمؤمنين جعل { الحق } قتال مشركي قريش ، ومن قال للمشركين جعل { الحق } شريعة الإسلام ، وقوله { إلى الموت } أي في سوقهم على أن المجادلين المؤمنون في دعائهم إلى الشرع على أنهم المشركون ، وقوله { وهم ينظرون } حال تزيد في فزع السوق وتقتضي شدة حاله .