قوله تعالى : { فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم } قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة ، وكان لهم من الغد عيد ومجمع ، وكانوا يدخلون على أصنامهم ويفرشون لهم الفراش ويضعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم ، زعموا التبرك عليهم فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه ، فقالوا لإبراهيم : ألا تخرج غداً معنا إلى عيدنا ؟ فنظر إلى النجوم فقال : إني سقيم ، قال ابن عباس : مطعون ، وكانوا يفرون من الطاعون فراراً عظيماً . قال الحسن : مريض . وقال مقاتل : وجع . وقال الضحاك : سأسقم .
وتنتقل السورة للإِشارة إلى ما أضمره إبراهيم - عليه السلام - لتلك الآلهة الباطلة فتقول : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم . فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ . فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } .
قالوا : كان قوم إبراهيم يعظمون الكواكب ، ويعتقدون تأثيرها فى العالم . . وتصادف أن حل أوان عيد لهم . فدعوه إلى الخروج معهم كما هى عادتهم فى ذلك العبد .
فتطلع إلى السماء ، وقلب نظره فى نجومها ، ثم قال لهم معتذرا عن الخروج معهم - ليخلوا بالأصنام فيحطمها - : { إِنِّي سَقِيمٌ } أى مريض مرضا بمنعنى من مصاحبتكم . { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أى : فتركوه وحده وانصرفوا إلى خارج بلدتهم .
قال الإِمام ابن كثير ما ملخصه : وإنما قال إبراهيم لقومه ذلك ليقيم فى البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم ، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيد لهم ، فأحب أن يختلى بآلهتهم ليكسرها ، فقال لهم كلاما هو حق فى نفس الأمر فهموا منه أنه سقيم على ما يعتقدونه ، فتولوا عنه مدبرين .
قال قتادة : والعرب تقول لمن تفكر فى أمر : نظر فى النجوم ، يعنى قيادة : أنه نظر فى السماء متفكرا فيما يلهيهم به فقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } أى : ضعيف .
وقول النبى صلى الله عليه وسلم " لم يكذب إبراهيم غير ثلاث كذبات : اثنتين فى ذات الله ، قوله { إِنِّي سَقِيمٌ } وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } وقوله فى سارة " هى أختى " " .
ليس المراد بالكذب هنا الكذب الحقيقى الذى يذم فاعله ، حاشا وكلا ، وِإنما أطلق الكذب على هذا تجوزاً ، وإنما هو من المعارض فى الكلام لمقصد شرعى دينى ، كما جاء فى الحديث : " إن من المعاريض لمندوحة عن الكذب " .
وقيل قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } أى ، مريض القلب من عبادتكم للأوثان من دون الله - تعالى - . .
ويبدو لنا أى نظر إبراهيم - عليه السلام - فى النجوم ، إنما هو نظر المؤمن المتأمل فى ملكوت الله - تعالى - المستدل بذلك على وحدانية الله وقدرته ، وأنه إنما فعل ذلك أمامهم - وهم قوم يعظمون النجوم - ليقنعهم بصدق اعتذاره عن الخروج معهم ، ويتم له ما يريده من تحطيم الأصنام .
كما يبدو لنا أن قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } المقصود منه : إنى سقيم القلب بسبب ما أنتم فيه من كفر وضلال ، فإن العاقل يقلقه ويزعجه ويسقمه ما أنتم فيه من عكوف على عبادة الأصنام .
وقال لهم ذلك ليتركوه وشأنه ، حتى ينفذ ما أقسم عليه بالنسبة لتلك الأصنام .
فكلام إبراهيم حق فى نفس الأمر - كما قال الإِمام ابن كثير - وقد ترك لقومه أن يفهموه على حسب ما يعتقدون .
والمعنى : ففكر في حيلة يخلو له بها بدّ أصنامهم فقال : { إني سقيمٌ } ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريهم بقاؤه حول بدّهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل . والوجه : أن التعقيب الذي أفادته الفاء من قوله : { فنظَرَ } تعقيب عرفي ، أي لكل شيء نحسبه فيفيد كلاماً مطوياً يشير إلى قصة إبراهيم التي قال فيها : { إني سقيم } والتي تفرع عليها قوله تعالى : { فراغ إلى أهله } [ الذاريات : 26 ] الخ .
وتقييد النظرة بصيغة المرة في قوله : { نظرةً } إيماء إلى أن الله ألهمه المكيدة وأرشده إلى الحجة كما قال تعالى : { ولقد آتينا إبراهيم رشده } [ الأنبياء : 51 ] .
وقوله : { إني سقيمٌ } عذر انتحله ليتركوه فيخلو ببيت الأصنام ليخلص إليها عن كثب فلا يجد من يدفعه عن الإيقاع بها . وليس في القرآن ولا في السنة بيان لهذا لأنه غني عن البيان . وذكر المفسرون أنه اعتذر عن خروجه مع قومه من المدينة في يوم عيد يخرجون فيه فزعم أنه مريض لا يستطيع الخروج فافترض إبراهيم خروجهم ليخلو ببدّ الأصنام وهو الملائم لقوله : { فتولوا عنه مُدبرينَ } .
والسقيم : صفة مشبهة وهو المريض كما تقدم في قوله : { بقلبٍ سليمٍ } [ الصافات : 84 ] . يقال : سَقِم بوزن مرِض ، ومصدره السَّقم بالتحريك ، فيقال : سقام وسقم بوزن قُفْل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إنّي سَقِيمٌ": أي طعين، أو لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عنه، ليبلغ من أصنامهم الذي يريد.
واختلف في وجه قيل إبراهيم لقومه: إنّي سَقِيمٌ وهو صحيح، فرُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ إلاّ ثَلاثَ كذباتٍ»... حدثنا أبو كُرَيب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: ثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ غَيَرَ ثَلاثِ كذباتٍ، ثِنْتَيْنِ فِي ذاتِ اللّهِ، قوله: "إنّي سَقِيمٌ"، وقَولِهِ: "بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا"، وقوْلِهِ فِي سارّةَ: هِيَ أُخْتِي»...
وقال آخرون: إن قوله إنّي سَقِيمٌ كلمة فيها مِعْراض، ومعناها أن كلّ من كان في عقبة الموت فهو سقيم، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر. والخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا القول، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحقّ دون غيره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
من أشرف على شيء جاز أن يقال انه فيه، كما قال تعالى "إنك ميت وإنهم ميتون".
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كان القوم نجامين، فأوهمهم أنه استدل بأمارة في علم النجوم على أنه يسقم {فَقَالَ إِنّي سَقِيمٌ} إني مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو أسامة، حدثني هشام، عن محمد، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، غير ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 62]، وقوله في سارة: هي أختي "فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن من طرق، ولكن ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله، حاشا وكلا، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزا، وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني، كما جاء في الحديث: "إن [في] المعاريض لمندوحة عن الكذب".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فقال} أي عقب هذه النظرة موهماً أنها سببه.
ولما كان بدنه صحيحاً فكان بصدد أن يتوقف في خبره، أكد فقال: {إني سقيم} فأوهم أن مراده أنه مريض الجسد، وأراد أنه مريض القلب بسبب آلهتهم، مقسم الفكر في أمرهم لأنه يريد أمراً عظيماً وهو كسرها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فكر في حيلة يخلو له بها بدّ أصنامهم فقال: {إني سقيمٌ} ليلزم مكانه ويفارقوه فلا يريهم بقاؤه حول بدّهم ثم يتمكن من إبطال معبوداتهم بالفعل.