السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٞ} (89)

{ فقال إني سقيم } أي : عليل وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فيقدر على كسرها . فإن قيل : النظر في علم النجوم غير جائز فكيف قدم إبراهيم عليه السلام عليه وأيضاً لم يكن سقيماً فكيف أخبرهم بخلاف حاله ؟ أجيب عن ذلك : بأنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام ؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخاصة لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم ؛ لأن قوله { إني سقيم } على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم ، وعلى تقدير تسليم ذلك أجيب بأوجه :

أحدها : أن نظره في النجوم أو في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه الحمى في بعض ساعات الليل والنهار ، فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال { إني سقيم } فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال ؛ لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت .

ثانيها أنهم كانوا أصحاب النجوم أي : يعلمونها ويقضون بها على أمورهم ، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي : في علم النجوم كما تقول : نظر فلان في الفقه أي : في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في عملهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال لهم { إني سقيم } سكنوا إلى قوله ، وأما قوله { إني سقيم } فمعناه سأسقم كقوله تعالى { إنك ميّت } ( الزمر : 30 ) أي : ستموت .

ثالثها : أن نظره في النجوم هو قوله تعالى { فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً } إلخ الآيات ( الأنعام : 76 ) فكان نظره ليتعرف هذه الكواكب هل هي قديمة أو حادثة وقوله { إني سقيم } أي : سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل بلوغه .

رابعها : قال ابن زيد : كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال { إني سقيم } أي : هذا السقم واقع لا محالة .

خامسها : أن قوله { إني سقيم } أي : مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم { فلعلك باخع نفسك } ( الكهف : 6 ) .

سادسها : قال الرازي : قال بعضهم : ذلك القول من إبراهيم عليه السلام كذبة وأوردوا فيه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات » قلت : ولبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل ؛ إذ فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام فقال ذلك الرجل : فكيف نحكم بكذب الراوي العدل ؟ فقلت له : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبة الكذب إلى الراوي أولى ، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله { فنظر نظرة في النجوم } أي : نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال : إنها منجمة أي : مفرقة ومنه نجوم المكاتب والمعنى : أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذراً أحسن من قوله : { إني سقيم } والمراد : أنه لا بد من أن يصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر إنك مسافر .