اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٞ} (89)

قوله : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم على مقتضى عادتهم ، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وكان لهم من الغد يوم عيد يخرجون إليه فأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فَيْقِدرَ على كسرها .

فإن قيل : النظر في علم النجوم غير جائز فكيف أخبرهم بخلاف حاله ؟

فالجواب : من وجوه .

الأول : أن نظره في النجوم أي في أوقات الليل والنهار ، وكانت تأتيه الحُمَّى في بعض ساعات الليل والنهار فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال : إني سقيم فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال ، لأن السُّقم كان يأتيه في ذلك الوقت .

الثاني : أنهم كانوا أصحاب النجوم يعظمونها ويقضون بها على أمورهم فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي في علم النجوم كما تقول : «نَظَرَ فُلانٌ في الفِقْه » أي في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في علمهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال : إني سقيم سَكَنُوا إلى قوله ، وأما قوله : إنِّي سقيم فمعناه سأسقم كقوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ ( وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ ) } [ الزمر : 30 ] أي ستموت .

الثالث : أن نظره في النجوم هو قوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ( الليل ){[47199]} رَأَى كَوْكَباً } [ الأنعام : 76 ] إلى آخر الآيات فكان نظره لتعرف أحوال هذه الكواكب هل هي قديمة أو محدثة ؟ وقوله : «إنِّي سِقِيمٌ أي سقيم القلب أي غير عارف بربِّي ، وكان ذلك قبل البلوغ .

الرابع : قال ابن زيد : كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مَرِضَ إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال : إني سقيم أي هذا السَّقم واقع لا محالة .

الخامس : أن قوله : إني سقيم أي مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد- صلى الله عليه وسلم - : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } [ الكهف : 6 ] .

السادس : أنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام ؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخَاصِّية لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم لأن قوله : إني سقيم على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا يَنْفَكُّ في أكثر حاله عن حصول حالة مكروهة{[47200]} إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سَقَم . {[47201]}

السابع : قال ابن الخطيب : قال بعضم ذلك القول عن إبراهيم- عليه ( الصلاة و ) السلام – كذباً . وأوردوا فيه حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : «مَا كَذَبَ إبْرَاهِيمُ إلاَّ ثَلاَثَ كَذِبَاتٍ » . {[47202]}

قلتُ{[47203]} لبعضهم : هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل لأن فيه نسبة الكذب ( إلى إبراهيم{[47204]} فقال ذلك الرجل فكيف نحكم بكذب الرَّاوِي العدل ؟ ) فقلت : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل عليه ( الصلاة و ) السلام كان من المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى . ثم نقول : لِمَ لاَ يجوز أن يكون المراد من قوله : { فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم } أي في نجوم كلامهم ومتفرَّقات أقوالهم ، فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال : إنها مُنَجَّمة{[47205]} أي متفرقة . ومنه : نَجَمْتُ{[47206]} الكِتَابَةَ ، والمعنى : أنه لما جمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم ، فلم يجد عذراً أحسن من قوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } ؛ ( والمراد : أنه لا بدّ{[47207]} من أن أصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر : إنك مسافر ، ولما قال : إني سقيم ) تَوَلَّوا عنه مدبرين وتركوه ، وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم .


[47199]:سقط من ب.
[47200]:كذا في الرازي وفي ب وفي أ مكررة.
[47201]:وانظر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره 26/147، 148.
[47202]:وانظر الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره 26/147، 148.
[47203]:هذا قول الرازي في تفسيره 26/148.
[47204]:ما بين القوسين ساقط من ب بسبب انتقال النظر.
[47205]:كذا هي في الرازي وفي أ أما في ب فهي نجمة.
[47206]:في الرازي و ب نجوم وهو الأصح.
[47207]:ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر.