قوله تعالى : { لا يسمعون } قرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : ( ( يسمعون ) ) بتشديد السين والميم ، أي : لا يتسمعون ، فأدغمت التاء في السين ، وقرأ الآخرون بسكون السين خفيف الميم ، { إلى الملإ الأعلى } أي : إلى الكتيبة من الملائكة . و( ( الملأ الأعلى ) ) هم الملائكة لأنهم في السماء ، ومعناه : أنهم لا يستطيعون الاستماع إلى الملأ الأعلى ،
وقوله - سبحانه - : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ . دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } جملة مستأنفة لبيان حالهم عند حفظ السماء ، وبيان كيفية الحفظ ، وما يصيبهم من عذاب وهلاك إذا ما حاولوا استراق السمع منها .
ولفظ " يسَّمَّعوُن " بتشديد السين - وأصله يتسمعون . فأدغمت التاء فى السين والضمير للشياطين ، وقرأ الجمهور { لا يَسْمعون } بإسكان السين .
قال صاحب الكشاف : الضمير فى { لاَّ يَسَّمَّعُونَ } لكل شيطان ، لأنه فى معنى الشياطين ، وقرئ بالتخفيف والتشديد . وأصله " يتسمعون " . والتسمع : تطلب السماع . يقال : تسمع فسمع . أو فلم يسمع .
فإن قلت : أى فرق بين سمعت فلانا يتحدث ، وسمعت إليه يتحدث . وسمعت حديثه ، وإلى حديثه ؟
قلت : المعدى بنفسه يفيد الإِدراك ، والمعد بإلى يفيد الإِصغاء مع الإِدراك .
والملأ فى الأصل : الجماعة يجتمعون علىا أمر فيملأون النفوس هيبة ، والمراد بالملأ الأعلى هنا : الملائكة الذين يسكنون السماء .
وسموا بذلك لشرفهم ، ولأنهم فى جهة العلو ، بخلاف غيرهم فإنهم يسكنون الأرض .
وقوله : { وَيُقْذَفُونَ } من القذف بمعنى الرجم والرمى ، و { دُحُوراً } مفعولا لأجله ، أى : يقذفون لأجل الدُّحور ، وهو الطرد والإِبعاد ، مصدر دَحَرَه يدْحَرُهُ دَحْراً ودُحُوراً : إذا طرده وأبعده .
والواصب : الدائم ، من الوصوب بمعنى الدوام ، يقال : وَصَب الشئ يَصِبُ وصُوباً ، إذا دام وثبت ، ومنه قوله : { وَلَهُ الدين وَاصِباً } أى : دائما ثابتا .
والمعنى : إنا زينا السماء الدنيا بنور الكواكب ، وحفظناها - بقدرتنا ورعايتنا - من كل شيطان متجرد من الخير ، فإن هذا الشيطان وأمثاله كلما حاولوا الاستماع إلى الملائكة فى السماء لم نمكنهم من ذلك ، بل قذفناهم ورجمناهم بالشهب والنيران من كل جانب من جوانب السماء ، من أجل أن ندمرهم ونطردهم ونبعدهم عنها ، ولهم منا - فوق كل ذلك - عذاب دائم ثابت لا نهاية له .
{ الملأ الأعلى } أهل السماء الدنيا فما فوقها ، ويسمى الكل منهم أعلى بالإضافة إلى ملإ الأرض الذي هو أسفل ، والضمير في { يسمعون } للشياطين ، وقرأ جمهور القراء والناس «يسْمعون » بسكون السين وتخفيف الميم ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص وابن عباس بخلاف عنه وابن وثاب وعبد الله بن مسلم وطلحة والأعمش «لا يسّمّعون » بشد السين والميم بمعنى لا يتسمعون فينتفي على القراءة الأولى سمعهم وإن كانوا يستمعون وهو المعنى الصحيح ، ويعضده قوله تعالى { إنهم عن السمع لمعزولون }{[9829]} [ الشعراء : 212 ] وينتفي على القراءة الآخرة أن يقع منهم استماع أو سماع ، وظاهر الأحاديث أنهم يستمعون حتى الآن لكنهم لا يسمعون وإن سمع منهم أحد شيئاً لم يفلت{[9830]} الشهاب قبل أن يلقي ذلك السمع إلى الذي تحته ، لأن من وقت محمد صلى الله عليه وسلم ملئت السماء حرساً شديداً وشهباً ، وكان الرجم في الجاهلية أخف ، وروي في هذا المعنى أحاديث صحاح مضمنها أن الشياطين كانت تصعد إلى السماء فتقعد للسمع واحداً فوق آخر يتقدم الأجسر نحو السماء ثم الذي يليه ثم الذي يليه فيقضي الله تعالى الأمر في الأمور في الأرض ، فيتحدث به أهل السماء ، فيسمعه منهم ذلك الشيطان الأدنى ، فيلقيه إلى الذي تحته ، فربما أحرقه شهاب وقد ألقى الكلام ، وربما لم يحرقه جملة فينزل تلك الكلمة إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة ، فتصدق تلك الكلمة ، فيصدق الجاهلون الجميع ، فلما جاء الله تعالى بالإسلام حرست السماء بشدة فلم يفلت شيطان سمع بتة{[9831]} ، ويروى أنها لا تسمع شيئاً الآن ، والكواكب والراجمة هي التي يراها الناس تنقض منقضية ، قال النقاش ومكي : وليست بالكواكب الجارية في السماء لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا نظر ، { ويقذفون } معناه ويرجمون ، .
اعتراض بين جملة { إنَّا زيَّنا السماء الدُّنيا } [ الصافات : 6 ] وجملة { فاستفتِهِم أهُم أشدُّ خلقاً } [ الصافات : 11 ] قصد منه وصف قصة طرد الشياطين .
وعلى تقدير قوله : { وَحِفْظاً } [ الصافات : 7 ] مصدراً نائباً مناب فعله يجوز جعل جملة { لاَ يَسمعُونَ } بياناً لكيفية الحفظ فتكون الجملة في موقع عطف البيان من جملة { وحِفْظَاً } على حد قوله تعالى : { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك } [ طه : 120 ] الآية ، أي انتفى بذلك الحفظ سَمع الشياطين للملأ الأعلى .
وحرف { إلى } يشير إلى تضمين فعل { يَسَّمَّعُونَ } معنى ينتهون فيسمعون ، أي لا يتركهم الرمي بالشهب منتهين إلى الملأ الأعلى انتهاء الطالب المكان المطلوب بل تدحرهم قبل وصولهم فلا يتلقفون من عِلم ما يجري في الملأ الأعلى الأشياء مخطوفة غير متبينة ، وذلك أبعد لهم من أن يسمعوا لأنهم لا ينتهون فلا يسمعون . وفي « الكشاف » : أن سمعت المعدّى بنفسه يفيد الإِدراك ، وسمعت المعدّى ب { إلى } يفيد الإصغاء مع الإدراك .
وقرأ الجمهور : { لاَ يَسْمَعُونَ } بسكون السين وتخفيف الميم . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف { لا يسَّمَّعون } بتشديد السين وتشديد الميم مفتوحتين على أن أصله : لا يَتسمعون فقلبت التاء سيناً توصلاً إلى الإِدغام ، والتسمع : تطلب السمع وتكلفه ، فالمراد التسمع المباشر ، وهو الذي يتهيأ له إذا بلغ المكان الذي تصل إليه أصوات الملأ الأعلى ، أي أنهم يدحرون قبل وصولهم المكان المطلوب ، والقراءتان في معنى واحد . وما نقل عن أبي عبيد من التفرقة بينهما في المعنى والاستعمال لا يصح .
وحاصل معنى القراءتين أن الشهب تحول بين الشياطين وبين أن يسمعوا شيئاً من الملأ الأعلى وقد كانوا قبل البعثة المحمدية ربما اختطفوا الخطفة فألقوها إلى الكهان فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قدر زيادة حراسة السماء بإرداف الكواكب بعضها ببعض حتى لا يرجع من خطف الخطفة سالماً كما دلّ عليه قوله : { إلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ } ، فالشهب كانت موجودة من قبل وكانت لا تحول بين الشياطين وبين تلقف أخبار مقطعة من الملأ الأعلى فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرمت الشياطين من ذلك .
و { الملأ } : الجماعة أهل الشأن والقدر . والمراد بهم هنا الملائكة . ووصف { المَلإِ } ب { الأعلى } لتشريف الموصوف .
والقذف : الرجم ، والجانب : الجهة ، والدُّحور : الطرد . وانتصب على أنه مفعول مطلق ل { يقذفون } . وإسناد فعل { يُقذفون } للمجهول لأن القاذف معلوم وهم الملائكة الموكّلون بالحفظ المشار إليه في قوله تعالى : { وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرساً شديداً وشُهُباً } [ الجن : 8 ] .
والعذاب الواصب : الدائم يقال : وصب يصب وصوباً ، إذا دام . والمعنى : أنهم يطردون في الدنيا ويحقرون ولهم عذاب دائم في الآخرة فإن الشياطين للنار { فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثياً } في سورة [ مريم : 68 ] ، ويجوز أن يكون المراد عذاب القذف وأنه واصب ، أي لا ينفكّ عنهم كلما حاولوا الاستراق لأنهم مجبولون على محاولته .