اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّا يَسَّمَّعُونَ إِلَى ٱلۡمَلَإِ ٱلۡأَعۡلَىٰ وَيُقۡذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٖ} (8)

قوله : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ } قرأ الأخوان وَحفصٌ بتشديد السين ( فالميم ){[46753]} والأصل يَسْتَمِعُونَ فأدغم ، والباقون بالتخفيف{[46754]} فيهما . واختار أبو عُبَيْدٍ الأولى وقال : لو كان مخففاً لم يتعد بإِلى{[46755]} . وأجيب عنه بأن معنى الكلام لا يسمعون إلى الملأ ، وقال مكي : لأنه جرى مجرى مُطَاوِعِهِ وهو يسّمعون فكما كان يسمع يتعدى{[46756]} «بإلى » تعدى سَمِع بإلى ، وفَعِلْتُ وافْتَعَلْتُ في التعدي سواء فتسمع مطاوع سمع واستمع أيضاً مطاوع سمع فتعدى سمع تعدّي مطاوعه{[46757]} . وهذه الجملة منقطعة عما قبلها ولا يجوز فيها أن تكون صفة لشيطان على المعنى إذ يصير{[46758]} التقدير : مِنْ كل شَيْطَانٍ مَارِدٍ غير سامع أو مستمع وهو فاسد ، ولا يجوز أن يكون جواباً لسؤال سائل : لم تحفظ من الشياطين ؟ إذ يفسد معنى ذلك{[46759]} . وقال بعضهم : أصل الكلام لئلا يسمعوا فحذفت «اللام وأن » فارتفع الفعل وفيه تعسف{[46760]} . وقَدْ وَهِمَ أبو البقاء فيجوَز أن تكون صفة وأن تكون حالاً وأن تكون مستأنفة{[46761]} فالأولان ظاهِرَا الفساد والثَّالث إنْ عني به الاستئناف{[46762]} البياني فهو فاسد أيضاً . وإن أراد الانقطاع على ما تقدم فهو صحيح{[46763]} .

فصل

واحتجوا لقراءة التخفيف بقوله تعالى : { إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 212 ] . وروى مجاهد عن ابن عباس : أن الشياطين يسمعون إلى الملأ الأعلى ثم يمنعون ولا يسمعون وللأولين أن يجيبوا فيقولوا التنصيص على كونهم معزولين عن السمع لا يمنع من كونهم معزولين أيضاً عن التسمع{[46764]} بدلالة هذه الآية بل هذا أقوى في رَدْع الشياطين ومنعهم من استماع أخبار السماء فإن الذي منع من الاستماع بأن يكون ممنوعاً عن السمع أولى{[46765]} واعلم أن الفرق بين قولك : سَمِعْتُ حَدِيثَ فُلاَن وبين قولك : سمِعْتُ إلى حَدِيثه أنّ قولك : سِمِعْتُ حديثَه يفيد الإدراك وسمعت إلى حديثه يفيد الإصفاء مع الإدراك{[46766]} ، وفي قوله : «لا يسمعون إلى الملأ الأعلى » قولان أشهرهما : أن تقدير الكلام لئلا يسمعوا ، فلما حذف الناصب صار كقوله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] وقوله : { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] . قال الزمخشري : حذف{[46767]} اللام وإن كل واحد منهما جائز بانفراده وأما اجتماعهما فمن المنكرات التي يجب صون القرآن عنها ، قال الزمخشري : إنه كلام منقطع عما قبله وهو حكاية المُسْتَرِقِينَ السمع وأنهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة ويتسمعوا وهم مقذوفون بالشهب مدحورون عن المقصود{[46768]} . والملأ الأعلى هم الملائكة الكتبة سكان السموات ومعنى يُقْذَفُونَ يُرْمَوْنَ من كل جانب من آفاق السماء{[46769]} .


[46753]:سقط من ب.
[46754]:من القراءات المتواترة انظر: السبعة 547 والإتحاف 368، والقرطبي 15/65 والنشر 2/356 ومعاني الفراء 2/383.
[46755]:القرطبي 15/65 والسمين 4/539.
[46756]:في ب: تعدى.
[46757]:قاله في مشكل إعراب القرآن 2/234، وانظر أيضا الكشف له 2/222.
[46758]:في ب: يعتبر.
[46759]:هذا توجيه الزمخشري في الكشاف 3/335 و 336 وأبي حيان في البحر 7/252 و 353 وانظر: الدر المصون 4/539.
[46760]:نقلته المراجع الثلاثة السابقة.
[46761]:التبيان 1088.
[46762]:هو أن تكون الثانية –أي الجملة الثانية- بمنزلة جواب لسؤال اقتضته الجملة الأولى، الإيضاح للقزويني 115-117 وهذا ليس منه بالطبع.
[46763]:الكشاف 3/336 والدر المصون 4/540.
[46764]:في ب: التسميع.
[46765]:الرازي 26/122.
[46766]:الكشاف 3/336. والرازي 26/122.
[46767]:سبق أنه في 3/336.
[46768]:المرجع السابق.
[46769]:انظر: البغوي 6/19 وزاد المسير لأبي الفرج ابن الجوزي 7/47 والقرطبي 15/65.