44- لم نُعجل عقاب هؤلاء بكفرهم ، بل استدرجناهم ومتّعناهم في الحياة الدنيا كما متعنا آباءهم قبلهم حتى طال عليهم العمر . أيتعامون عما حولهم فلا يرون أنا نقصد الأرض فننقصها من أطرافها بالفتح ونصر المؤمنين ؟ ! أفهم الغالبون ، أم المؤمنون الذين وعدهم الله بالنصر والتأييد ؟ {[131]} .
قوله تعالى :{ بل متعنا هؤلاء } الكفار { وآباءهم } في الدنيا أي : أمهلناهم . وقيل : أعطيناهم النعمة ، { حتى طال عليهم العمر } أي امتد بهم الزمان فاغتروا . { أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } أي : ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين ، يريد ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه ديار الشرك أرضاً فأرضاً ، { أفهم الغالبون } أم نحن .
والذي أوجب لهم استمرارهم على كفرهم وشركهم قوله : { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ْ } أي : أمددناهم بالأموال والبنين ، وأطلنا أعمارهم ، فاشتغلوا بالتمتع بها ، ولهوا بها ، عما له خلقوا ، وطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وعظم طغيانهم ، وتغلظ كفرانهم ، فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم ، وعن يسارهم من الأرض ، لم يجدوا إلا هالكا ولم يسمعوا إلا صوت ناعية ، ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك ، وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس الأشراك ، ولهذا قال : { أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ْ } أي : بموت أهلها وفنائهم ، شيئا فشيئا ، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ، فلو رأوا هذه الحالة لم يغتروا ويستمروا على ما هم عليه .
{ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ } الذين بوسعهم ، الخروج عن قدر الله ؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت ؟ فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء ؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم ، أذعنوا ، وذلوا ، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة ؟
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة أخرى من نعم الله عليهم لم يحسنوا شكرها ، فقال - تعالى - : { بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر . . . } .
أى : لا تلتفت - أيها الرسول الكريم - إلى هؤلاء المشركين الذين أعرضوا عن ذكر ربهم ، والذين زعموا أن آلهتهم تضر أو تنفع ، فإننا قد كلأناهم برعايتنا بالليل والنهار ، ومتعناهم وآباءهم من قبلهم بالكثير من متع الحياة الدنيا ، حتى طالت أعمارهم فى رخاء ونعمة ، فحملهم ذلك على الطغيان والبطر والإصرار على الكفر .
وسنأخذهم فى الوقت الذى نريده أخذ عزيز مقتدر ، فإن ما أعطيناه لهم من نعم إنما هو على سبيل الاستدراج لهم .
ثم يلفت - سبحانه - أنظارهم إلى الوقاع المشاهد فى هذه الحياة فيقول : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون } .
وللعلماء فى تفسير هذه الجملة الكريمة أقوال منها : أن المراد بنقص الأرض من أطرافها : إهلاك المشركين السابقين الذين كذبوا رسلهم ، كقوم نوح وعاد وثمود ، وهم يمرون على قرى بعض هؤلاء المكذبين ، ويرون آثارهم وقد دمرت ديارهم .
والمعنى : أفلا ينظرون هؤلاء المشركون الذين كذبوك يا محمد ، فيرون بأعينهم ما حل بأمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلك . وكيف أننا طوينا الأرض بهم . وجعلناهم أثرا بعد عين .
والاستفهام فى قوله : { أَفَهُمُ الغالبون } للإنكار .
أى : لم تكن الغلبة والعاقبة في يوم من الأيام لمن كذبوا رسل الله - تعالى - وإنما الغلبة والظفر وحسن العاقبة لمن آمن بالرسل وصدقهم واتبع ما جاءوا به من عند ربهم .
وقد أشار الإمام ابن كثير إلى هذا المعنى بقوله : " أفلا يعتبرون نصر الله لأوليائه على أعدائه ، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين . ولهذا قال : { أَفَهُمُ الغالبون } .
يعنى : بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون .
ومنها أن المراد بنقص الأرض من أطرافها : نقص أرض الكفر ودار الحرب ، وتسليط المسلمين عليها وانتزاعها من أيديهم بدليل الاستفهام الإنكارى فى قوله { أَفَهُمُ الغالبون } أى : لا . . . ليسوا هم الذين يغلبون جندنا ، وإنما جندنا هم الغالبون .
وقد صدر الآلوسى تفسيره لهذا القول فقال : " أفلا يرون أنا تأتى الأرض " أى : أرض الكفرة " ننقصها من أطرافها " بتسليط المسلمين عليها ، وحوز ما يحوزونه منها ، ونظمه فى سلك ملكهم . . . " أفهم الغالبون " على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين .
والمراد إنكار ترتيب الغالبية على ما ذكر من نقص أرض الكفرة بتسليط المؤمنين عليها ، كأنه قيل : أبعد ظهور ما ذكر ورؤيتهم له يتوهم غلبتهم ، وفى التعريف تعريض بأن المسلمين هم المتعينون للغلبة المعروفون فيها .
وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : أى فائدة فى قوله { نَأْتِي الأرض } ؟ .
قلت : فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدى المسلمين ، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغرو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ، ناقصة من أطرافها .
وهذان الرأيان مع وجاهتهما ، إلا أن الرأى الأول الذى ذهب إليه ابن كثير أكثر شمولا ، لأنه يتناول ما أصاب المكذبين للرسل السابقين من عقاب كما يشمل التهديد للمكذبين المعاصرين للعهد النبوى ، بأنهم إذا استمروا فى طغيانهم فسيحل بهم ما حل بمن سبقوهم .
وهناك من يرى أن المراد بنقص الرض من أطرافها : موت العلماء ، أو خرابها عند موت أهلها ، أو نقص الأنفس والثمرات . . . . ولكن هذه الآراء ليس معها ما يرجحها .
{ بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر } إضراب عما توهموا ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم وهو الاستدراج والتمتع بما قدر لهم من الأعمار ، أو عن الدلالة على بطلانه ببيان ما أوهمهم ذلك ، وهو أنه تعالى متعهم بالحياة الدنيا وأمهلهم حتى طالت أعمارهم فحسبوا أن لا يزالوا كذلك وأنه بسبب ما هم عليه ولذلك عقبه بما يدل على أنه أمل كاذب فقال : { أفلا يرون أنا نأتي الأرض } أرض الكفرة . { ننقصها من أطرافها } بتسليط المسلمين عليها ، وهو تصوير لما يجريه الله تعالى على أيدي المسلمين . { أفهم الغالبون } رسول الله والمؤمنين .
ثم وقفهم الله تعالى على مواضع العبر في الأمم وفي البشر بحسب الخلاف والأطراف ، والرؤية في قوله { يرون } رؤية العين تتبعها رؤية القلب ، و { نأتي } معناه بالقدرة والبأس ، و { الأرض } عامة في الجنس . وقوله { من أطرافها } إما أن يريد فيما يخرب من المعمور فذلك نقص للأرض وإما أن يريد موت البشر فهو تنقص للقرون ويكون المراد حينئذ نأتي أهل الأرض ، وقال قوم النقص من الأطراف موت العلماء ثم وقفهم على جهة التوبيخ أهم يعلمون من غلب أهل الأرض قهر الكل بسلطانه وعظمته أي إن ذلك محال بين بل هم مغلوبون مقهورون .
{ بل متعنا هؤلاء وءاباءهم حتى طال عليهم العمر }
والإشارة ب { هؤلاء } لحَاضرين في الأذهان وهم كفار قريش .
وقد استقريْت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفارَ قريش .
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون }
تفريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدّهم تأخير الوعد به دليلاً على تكذيب وقوعه حتى قالوا : { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ الأنبياء : 38 ] تهكماً وتكذيباً . فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى : { لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفّون عن وجوههم النار } إلى قوله تعالى : { ما كانوا به يستهزئون } [ الأنبياء : 3941 ] فرّع على ذلك كله استفهاماً تعجيبياً من عدم اهتدائهم إلى إمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالاً على قربه بحصول أماراته .
والرؤية علمية ، وسَدت الجملة مسَدّ المفعولين لأنها في تأويل مصدر ، أي أعجبوا من عدم اهتدائهم إلى نقصان أرضهم من أطرافها ، وأن ذلك من صنع الله تعالى بتوجه عناية خاصة ، لكونه غير جار على مقتضى الغالب المعتاد ، فمَن تأمّل علم أنه من عجيب صنع الله تعالى ، وكفى بذلك دليلاً على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صدق ما وعدهم به وعنايةِ ربه به كما دلّ عليه فعل { نأتي } .
فالإتيان تمثيل بِحال الغازي الذي يسعى إلى أرض قوم فيقتُل ويأسِرُ كما تقدم في قوله تعالى : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } [ النحل : 26 ] .
والتعريف في { الأرض } تعريف العهد ، أي أرض العرب كما في قوله تعالى في [ سورة يوسف : 80 ] { فلن أبرح الأرض } أي أرضَ مصر .
والأطراف : جمع طَرف بفتح الطاء والراء . وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته ، وضده الوسط .
والمراد بنقصان الأرض : نقصان مَن عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين ، والقرينة المشاهدة .
والمراد : نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة ، ومن هاجر منهم إلى الحبشة ، ومَن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية ، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين . وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد .
وجملة { أفَهمُ الغالبون } مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة . والاستفهام إنكاري ، أي فكيف يحسبون أنهم غلَبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم .
واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى : { أفهم الغالبون } دون الفعلية لدلالتها بتعريف جُزْأيْهَا على القصر ، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون ، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقص ، ولَمَا خلت بلدتهم من عدد كثير منهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بل متعنا هؤلاء} يعني: كفار مكة {وءاباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون} يعني: أفهلا يرون {أنا نأتي الأرض} يعني: أرض مكة {ننقصها من أطرافها} يعني: نغلبهم على ما حول أرض مكة {أفهم الغالبون}، يعني: كفار مكة، أو النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون؟ بل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضي الله عنهم، هم الغالبون لهم، وربه محمود.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما لهؤلاء المشركين من آلهة تمنعهم من دوننا، ولا جار يجيرهم من عذابنا، إذا نحن أردنا عذابهم، فاتكلوا على ذلك، وعصوا رسلنا اتكالاً منهم على ذلك ولكنا متّعناهم بهذه الحياة الدنيا وآباءهم من قبلهم حتى طال عليهم العمر، وهم على كفرهم مقيمون، لا تأتيهم منا واعظة من عذاب ولا زاجرة من عقاب على كفرهم وخلافهم أمرنا وعبادتهم الأوثان والأصنام، فنسوا عهدنا وجهلوا موقع نعمتنا عليهم، ولم يعرفوا موضع الشكر. وقوله:"أفَلا يَرَوْنَ أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أطْرَافِها" يقول تعالى ذكره: أفلا يرى هؤلاء المشركون بالله السائلو محمد صلى الله عليه وسلم الآيات المستعجلو بالعذاب، أنا نأتي الأرض نخرّبها من نواحيها بقهرنا أهلها، وغَلَبَتِنَاهم، وإجلائهم عنها، وقتلهم بالسيوف، فيعتبروا بذلك ويتعظوا به، ويحذروا منا أن ننزل من بأسنا بهم نحو الذي قد أنزلنا بمن فعلنا ذلك به من أهل الأطراف؟ وقد تقدم ذكر القائلين بقولنا هذا ومخالفيه بالروايات عنهم في سورة الرعد بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله: "أفَهُمُ الغالِبُونَ "يقول تبارك وتعالى: أفهؤلاء المشركون المستعجلو محمد بالعذاب الغالبونا، وقد رأوا قهرنا من أحللنا بساحته بأسنا في أطراف الأرضين؟ ليس ذلك كذلك، بل نحن الغالبون. وإنما هذا تقريع من الله تعالى لهؤلاء المشركين به بجهلهم، يقول: أفيظنون أنهم يغلبون محمدا ويقهرونه، وقد قهر من ناوأه من أهل أطراف الأرض غيرهم؟...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم بين الذي حملهم على ذلك، وهو ما قال: {بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر} ولم يأخذهم بالعقوبة بأعمالهم التي عملوها وما ظنوا أن الله راض عنهم وأنهم على الحق. ولهذا قالوا: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} [الأنعام: 148] ادعوا رضا الله بما هم عليه [و] آباؤهم. ثم بين أنه، وإن تركهم وقتا طويلا، ومتعهم عليه، قد نقص ما كانوا يملكون حين غلب عليهم رسول الله على بعض أملاكهم، وجعله ملكا للمسلمين، وهو قوله: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
طولُ الإمتاع إذا لم يكن مقروناً بالتوفيق، مشفوعاً بالعصمة، كان مكراً واستدراجاً، وزيادةً في العقوبة. والحقُّ كما يعاقِبُ بالآلام والأهوال يعاقِب بالإملاء والإمهال.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم قال: بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعاً لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم {حتى طَالَ عَلَيْهِمُ} الأمد، وامتدت بهم أيام الروح والطمأنينة، فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم، وذلك طمع فارغ وأمد كاذب.
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا} ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردّها دار إسلام.
فإن قلت: أي فائدة في قوله: {نَأْتِي الأرض}؟ قلت فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم وقفهم الله تعالى على مواضع العبر في الأمم وفي البشر بحسب الخلاف والأطراف، والرؤية في قوله {يرون} رؤية العين تتبعها رؤية القلب، و {نأتي} معناه بالقدرة والبأس، و {الأرض} عامة في الجنس. وقوله {من أطرافها} إما أن يريد فيما يخرب من المعمور فذلك نقص للأرض وإما أن يريد موت البشر فهو تنقص للقرون ويكون المراد حينئذ نأتي أهل الأرض... ثم وقفهم على جهة التوبيخ أهم يعلمون من غلب أهل الأرض قهر الكل بسلطانه وعظمته أي إن ذلك محال بيّن، بل هم مغلوبون مقهورون.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم قال واعظًا لهم: {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} اختلف المفسرون في معناه،... وأحسن ما فسر بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الاحقاف: 27]...
والمعنى: أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه، وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة، وإنجائه لعباده المؤمنين؛ ولهذا قال: {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} يعني: بل هم المغلوبون الأسفلون الأخسرون الأرذلون.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وأخرجهم عن الخطاب عدم مبالاة بهم، وفي العدول إلى الإشارة عن الضمير إشارة إلى تحقيرهم...
وكان الأصل يأتي جيوش المسلمين لكنه أسند الإتيان إليه عز وجل تعظيماً لهم وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاه، وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فلو لفتوا أنظارهم إلى من عن يمينهم، وعن يسارهم من الأرض، لم يجدوا إلا هالكا ولم يسمعوا إلا صوت ناعية، ولم يحسوا إلا بقرون متتابعة على الهلاك، وقد نصب الموت في كل طريق لاقتناص النفوس الأشراك، ولهذا قال: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ْ} أي: بموت أهلها وفنائهم، شيئا فشيئا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، فلو رأوا هذه الحالة لم يغتروا ويستمروا على ما هم عليه. {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ْ} الذين بوسعهم، الخروج عن قدر الله؟ وبطاقتهم الامتناع عن الموت؟ فهل هذا وصفهم حتى يغتروا بطول البقاء؟ أم إذا جاءهم رسول ربهم لقبض أرواحهم، أذعنوا، وذلوا، ولم يظهر منهم أدنى ممانعة؟
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وبعد هذا الجدل التهكمي الذي يكشف عن سخف ما يعتقده المشركون وخوائه من المنطق والدليل.. يضرب السياق عن مجادلتهم؛ ويكشف عن علة لجاجتهم؛ ثم يلمس وجدانهم لمسة تهز القلوب، وهو يوجهها إلى تأمل يد القدرة، وهي تطوي رقعة الأرض تحت أقدام الغالبين، وتقص أطرافها فتردهم إلى حيز منها منزو صغير، بعد السعة والمنعة والسلطان! (بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر. أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها؟ أفهم الغالبون؟).. فهو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرتهم. والمتاع ترف. والترف يفسد القلب ويبلد الحس. وينتهي إلى ضعف الحساسية بالله، وانطماس البصيرة دون تأمل آياته. وهذا هو الابتلاء بالنعمة حين لا يستيقظ الإنسان لنفسه ويراقبها، ويصلها دائما بالله، فلا تنساه. ومن ثم يلمس السياق وجدانهم بعرض المشهد الذي يقع كل يوم في جانب من جنبات الأرض حيث تطوى رقعة الدول المتغلبة وتنحسر وتتقلص. فإذا هي دويلات صغيرة وكانت إمبراطوريات. وإذا هي مغلوبة على أمرها وكانت غالبة. وإذا هي قليلة العدد وكانت كثيرة. قليلة الخيرات وكانت فائضة بالخيرات.. والتعبير يرسم يد القدرة وهي تطوي الرقعة وتنقص الأطراف وتزوي الأبعاد... فإذا هو مشهد ساحر فيه الحركة اللطيفة، وفيه الرهبة المخيفة! (أفهم الغالبون)؟ فلا يجري عليهم ما يجري على الآخرين؟...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإشارة ب {هؤلاء} لحَاضرين في الأذهان وهم كفار قريش. وقد استقريْت أن القرآن إذا ذكرت فيه هذه الإشارة دون وجود مشار إليه في الكلام فهو يعني بها كفارَ قريش.
{أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الارض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون} تفريع على إحالتهم نصر المسلمين وعدّهم تأخير الوعد به دليلاً على تكذيب وقوعه حتى قالوا: {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [الأنبياء: 38] تهكماً وتكذيباً. فلما أنذرهم بما سيحل بهم في قوله تعالى: {لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفّون عن وجوههم النار} إلى قوله تعالى: {ما كانوا به يستهزئون} [الأنبياء: 3941] فرّع على ذلك كله استفهاماً تعجيبياً من عدم اهتدائهم إلى أمارات اقتران الوعد بالموعود استدلالاً على قربه بحصول أماراته. والرؤية علمية،...
والنقصان: تقليل كمية شيء. والأطراف: جمع طَرف بفتح الطاء والراء. وهو ما ينتهي به الجسم من جهة من جهاته، وضده الوسط. والمراد بنقصان الأرض: نقصان مَن عليها من الناس لا نقصان مساحتها لأن هذه السورة مكية فلم يكن ساعتئذ شيء من أرض المشركين في حوزة المسلمين، والقرينة المشاهدة. والمراد: نقصان عدد المشركين بدخول كثير منهم في الإسلام ممن أسلم من أهل مكة، ومن هاجر منهم إلى الحبشة، ومَن أسلم من أهل المدينة إن كانت الآية نزلت بعد إسلام أهل العقبة الأولى أو الثانية، فكان عدد المسلمين يومئذ يتجاوز المائتين. وتقدم نظير هذه الجملة في ختام سورة الرعد.
وجملة {أفَهمُ الغالبون} مفرعة على جملة التعجيب من عدم اهتدائهم إلى هذه الحالة. والاستفهام إنكاري، أي فكيف يحسبون أنهم غلَبوا المسلمين وتمكنوا من الحجة عليهم. واختيار الجملة الاسمية في قوله تعالى: {أفهم الغالبون} دون الفعلية لدلالتها بتعريف جُزْأيْهَا على القصر، أي ما هم الغالبون بل المسلمون الغالبون، إذ لو كان المشركون الغالبين لما كان عددهم في تناقص، ولَمَا خلت بلدتهم من عدد كثير منهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر} أي متع الله سبحانه هؤلاء وكانت متعتهم امتدادا لما متع به آباءهم من قبلهم، متعهم أولا بسلطان في البلاد العربية، وإن لم يكن ملكا، بل كان نفوذا أشبه بالملك، ومتعهم ثانيا بأن كانت إقامتهم في بيت الله الحرام، وهم آمنون ويتخطف الناس من حولهم، ومتعهم ثالثا بأن كانت لهم متاجر تسير في البلاد العربية من شمالها إلى جنوبها، ومتعهم رابعا بأن كانوا رؤساء الحج في أيديهم السدانة والسقاية، ومفتاح الكعبة التي كان يؤمها الناس من كل فج عميق، ومتعهم خامسا بأن في أيدي الكثيرين منهم المال والبنين وأنهم أكثر نفيرا. متعوا بكل ذلك، والمتعة من غير إيمان تغري بالشر، واستمرارها يؤدي إلى طمس النفس عن المعارف الدينية، ولقد كانت هذه المتع تتسلسل فيها الأبناء عن الآباء، ولذا قال تعالى: {بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر}،
و {بل} هنا للإضراب الانتقالي، بأن انتقل من المظاهر التي بدت في شركهم وإعراضهم عن الله تعالى إلى بيان الحال النفسية التي كانوا عليها حتى أغرتهم بالتطاول على الله وعلى الحق، وسيطرت عليهم الأوهام، وتوارثوها جيلا بعد جيل حتى تحجرت عليها قلوبهم، وصارت قلوبهم غلفا، وصاروا صما عن سماع الحق، بكماً عن المنطق به وركبتهم الطغواء، حتى صاروا لا يرون ما هو واقع، ولا يتوقعون إلا ما يتفق مع أهوائهم، ولا يعرفون أن الأمور التي استكنها الغيب لهم لا ترضيهم، ولذا قال تعالى: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها}...
وهذه الآية في معناها ظاهرها أنها نزلت بالمدينة، وإن التمتع لهم ولآبائهم يجعلها أقرب إلى أن تكون مكية، ولعلها نزلت بمكة، ثم نزلت مرة أخرى بالمدينة، وقد جوز العلماء ذلك.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
والنقص من أطرافها يصدق بالنقص من الأموال والأنفس والثمرات، كما يصدق بالاستئصال والإبادة، والاستعباد وفقدان الحريات، وهكذا يصبح الطاغية مستضعفا، وينقلب الغالب مغلوبا. ومن ذلك أيضا تقلص اليابسة والخضرة أمام زحف البحار والصحارى.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ أشارت الآية التالية إلى أحد علل تمرّد وعصيان الكافرين المهمّة، فتقول: (بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتّى طال عليهم العمر) إلاّ أنّ هذا العمر الطويل والنعم الوفيرة بدل أن تحرّك فيهم حسّ الشكر والحمد، ويطأطئوا رؤوسهم لعبودية الله، فإنّها أصبحت سبب غرورهم وطغيانهم.
ولكن ألا يرى هؤلاء أنّ هذا العالم ونعمه زائلة؟ (أفلا يرون أنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها)؟ فإنّ الأقوام والقبائل تأتي الواحدة تلو الأخرى وتذهب، وليس للأفراد الصغار والكبار عمر خالد، والجميع سيصيبهم الفناء، والأقوام الذين كانوا أشدّ منهم وأقوى وأكثر تمردّاً وعصياناً أُودعوا تحت التراب، وفي ظلام القبور، وحتّى العلماء والعظماء الذين كان بهم قوام الأرض قد أغمضوا أعينهم وودّعوا الدنيا! ومع هذا الحال (أفهم الغالبون)؟
وقد اختلف المفسّرون في المراد من جملة (إنّا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها):
فقال بعضهم: إنّ المراد هو أنّ الله ينقص تدريجيّاً من أراضي المشركين ويضيفها على بلاد المسلمين. إلاّ أنّه بملاحظة كون هذه السورة نزلت في مكّة، ولم يكن للمسلمين تلك الفتوحات، فإنّ هذا التّفسير يبدو غير مناسب.
وقال بعض آخر: إنّ المقصود هو خراب وانهدام الأراضي بصورة تدريجيّة.
وبعض يعتبرونها إشارة إلى سكّان الأرض.
وذكر بعض أنّ المراد من أطراف الأرض هو العلماء خاصّة.
إلاّ أنّ الأنسب من كلّ ذلك، أنّ المراد من الأرض هو شعوب بلدان العالم المختلفة، والأقوام والأفراد الذين يسيرون نحو ديار العدم بصورة تدريجيّة ودائمة، ويودعون الحياة الدنيا، وبهذا فإنّه ينقص دائماً من أطراف الأرض.