قوله تعالى : { هذا فوج مقتحم معكم } قال ابن عباس : هذا هو أن القادة إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع قالت الخزنة للكفار . هذا يعني : الأتباع ، فوج : جماعة مقتحم معكم النار ، أي : داخلوها كما أنتم دخلتموها ، والفوج : القطيع من الناس وجمعه أفواج ، والاقتحام الدخول في الشيء رمياً بنفسه فيه ، قال الكلبي : إنهم يضربون بالمقامع حتى يوقعوا أنفسهم في النار ، خوفاً من تلك المقامع ، فقالت القادة : { مرحباً بهم } يعني : بالأتباع ، { إنهم صالوا النار } أي : داخلوها كما صلينا .
حكى - سبحانه - بعد ذلك ما يقوله أهل النار بعضهم لبعض على سبيل الندم والتحسر والتقريع . فقال : { هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار } .
والفوج : الجمع الكثير من الناس ، والاقتحام : ركوب الشدة والدخول فيها . يقال : قحم فلان نفسه فى الأمر ، إذا رمى نفسه فيه من غير روية .
أى : قال الكفار بعضهم لبعض بعد أن رأوا غيرهم يلقى فى النار معهم ، أو قالت الملائكة لهم على سبيل التقريع والتأنيب : { هذا فَوْجٌ } أى جمع كثير من أتباعكم وإخوانكم فى الضلال . { مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } أى داخل معكم النار وعلى غير اختيار منه . وإنما يساق إليها سوقا فى ذلة ومهانة .
وهنا يقول زعماء الكفر : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار } أى : لا مرحباً ولا أهلاً بهؤلاء الداخلين فى النار معنا ، لأنهم سيصلون سعيرها مثلنا ، ولن يستطيعوا أن يدفعوا شيئا من حرها عنا . .
فقوله { مَرْحَباً } مفعول به لفعل محذوف وجوبا ، والتقدير : أتوا معنا لا مرحباً بهم . والجملة دعائية لا محل لها من الإِعراب أى : لا أتوا مكانا رحباً بل ضيقاً ، وهنا يحكى القرآن رد الفوج المقتحم للنار معهم فيقول : { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ . . }
قوله : { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ } : هذا إخبار عن قيل أهل النار بعضهم لبعض كما قال تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ويكفر بعضهم ببعض فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى إذا أقبلت التي بعدها مع الخزنة من الزبانية : { هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ } أي : داخل معكم { لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ } أي : لأنهم من أهل جهنم { قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ } .
{ هذا فوج مقتحم معكم } حكاية ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار واقتحمها معهم فوج تبعهم في الضلال ، والاقتحام ركوب الشدة والدخول فيها . { لا مرحبا بهم } دعاء من المتبوعين على أتباعهم أو صفة ل { فوج } ، أو حال أي مقولا فيهم لا مرحبا أي ما أتوا بهم رحبا وسعة . { إنهم صالوا النار } داخلون النار بأعمالهم مثلنا .
ابتداء كلام حكي به تخاصم المشركين في النار فيما بينهم إذا دخلوها كما دل عليه قوله تعالى في آخره : { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } [ ص : 64 ] ، وبه فسر قتادة وابن زيد ، وجريانه بينهم ليزدادوا مقتاً بأن يضاف إلى عذابهم الجسماني عذاب أنفسهم برجوع بعضهم على بعض بالتنديم وسوء المعاملة .
وأسلوب الكلام يقتضي متكلماً صادراً منه ، وأسلوبُ المقاولة يقتضي أن المتكلم به هم الطاغون الذين لهم شر المآب لأنهم أساس هذه القضية . فالتقدير : يقولون ، أي الطاغون بعضهم لبعض : هذا فوج مقتحم معكم ، أي يقولون مشيرين إلى فوج من أهل النار أُقحم فيهم لَيسوا من أكفائهم ولا من طبقتهم وهم فوج الأتباع من المشركين الذين اتبعوا الطاغين في الحياة الدنيا ، وذلك ما دل عليه قوله : { أنتم قدمتموه لنا } [ ص : 60 ] أي أنتم سبب إحضار هذا العذاب لنا . وهو الموافق لمعنى نظائره في القرآن كقوله تعالى : { كلما دخلت أمة لعنت أختها } [ الأعراف : 38 ] إلى قوله : { بما كنتم تكسبون } في سورة [ الأعراف : 39 ] ، وقوله : { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا } في سورة [ البقرة : 166 ] ، وقوله : { وأَقْبَلَ بَعْضُهُم على بَعْضضٍ يَتَسَآءَلُونَ } الآيات من سورة { الصافات : 27 ] . وأوضحُ من ذلك كله قوله تعالى في آخر هذه الآية { إنَّ ذلك لحقٌّ تخاصم أهللِ النَّارِ } [ ص : 64 ] .
فجملة القول المحذوف في موضع الحال من الطّاغين . وجملة { هذا فوجٌ } إلى آخرها مقول القول المحذوف .
والفوج : الجماعة العظيمة من الناس ، وتقدم في قوله : { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً } في سورة [ النمل : 83 ] .
والاقتحام : الدخول في الناس ، و ( مع ) مؤذنة بأن المتكلمين متبوعون ، وأن الفوج المقتحم أتباع لهم ، فأدخلوا فيهم مدخل التابع مع المتبوع بعلامات تشعر بذلك .
وجملة : { لا مرحباً بهم } معترضة مستأنفة لإِنشاء ذم الفوج . و { لاَ مَرْحَباً } نفيٌ لكلمةٍ يقولها المزور لزائره وهي إنشاء دعاء الوافد . و { مرحباً } مصدر بوزن المفعل ، وهو الرُّحب بضم الراء وهو منصوب بفعل محذوف دل عليه معنى الرحب ، أي أتيت رحباً ، أي مكاناً ذا رحب ، فإذا أرادوا كراهية الوافد والدعاء عليه قالوا : لا مرحباً به ، كأنهم أرادوا النفي بمجموع الكلمة :
لا مرحباً بِغَدٍ ولا أهلاً به *** إن كان تفريق الأحبة في غدِ
وذلك كما يقولون في المدح : حبّذا ، فإذا أرادوا ذمّاً قالوا : لا حبّذا . وقد جمعهما قول كنزة أمّ شملة المنقري تهجو فيه صاحبة ذي الرمة :
ألا حبّذا أهل الملا غير أنه *** إذا ذكرت ميَّ فلا حبّذا هيا
ومعنى الرحب في هذا كله : السعة المجازية ، وهي الفرح ولقاء المرغوب في ذلك المكان بقرينة أن نفس السعة لا تفيد الزائد ، وإنما قالوا ذلك لأنهم كرهوا أن يكونوا هم وأتباعهم في مكان واحد جرياً على خلق جاهليتهم من الكبرياء واحتقار الضعفاء .
وجملة { إنهم صَالُوا النَّارِ } خبر ثان عن اسم الإِشارة ، والخبر مستعمل في التضجّر منهم ، أي أنهم مضايقوننا في مضيق النار كما أومأ إليه قولهم : { مقتحِم معكم لا مرحباً بهم } .