افتتحت هذه السورة بالإخبار بأنه سبح لله ما في السماوات وما في الأرض ، وأنه لا يليق بالمؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون ، وإن الله يحب أن يكونوا يدا واحدة ، ثم وصمت بني إسرائيل بالعناد والكفر على لسان رسولين كريمين هما موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وبأنهم يريدون أن يطفئوا نور الله ، والله متم نوره ، وفيها وعد الله ووعده الحق أن يظهر هذا الدين على ما سواه ولو كره المشركون . وختمت بالحث على الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس ، وبوعد المجاهدين بالمغفرة والجنة ، وأخرى يحبها المؤمنون : نصر من الله وفتح قريب ، ويحث المؤمنين أن يكونوا أنصار الله كما كان الحواريون مع عيسى ابن مريم ، وبأن الله يؤيد المؤمنين بنصره وهو الغالب على كل شيء ذو الحكمة البالغة .
1- نزَّه الله عما لا يليق به كل ما في السماوات وما في الأرض ، وهو - وحده - الغالب على كل شيء ، ذو الحكمة البالغة .
{ 1-3 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } وهذا بيان لعظمته تعالى وقهره ، وذل جميع الخلق{[1069]} له تبارك وتعالى ، وأن جميع من في السماوات والأرض يسبحون بحمد الله ويعبدونه ويسألونه حوائجهم ، { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الذي قهر الأشياء بعزته وسلطانه ، { الْحَكِيمُ } في خلقه وأمره .
1- سورة " الصف " من السور المدنية الخالصة ، وقد اشتهرت بهذا الاسم منذ عهد النبوة .
فقد أخرج الإمام أحمد عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا : أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله عن أحب الأعمال إلى الله ؟ فلم يقم أحد منا ، فأرسل إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ، فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة ، يعني سورة الصف كلها( {[1]} ) .
قال الآلوسي : وتسمى –أيضا- سورة الحواريين ، وسورة عيسى –عليه السلام- .
وعدد آياتها أربع عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة " التغابن " وقبل سورة " الفتح " .
2- وقد افتتحت بتسبيح الله –تعالى- عن كل ما لا يليق به ، ثم وجهت نداء إلى المؤمنين نهتهم فيه أن يقولوا قولا لم تطابقه أفعالهم ، فقال –تعالى- : { يأيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون ، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون } .
وبعد أن ذكر –سبحانه- جانبا مما قاله موسى –عليه السلام- لقومه ، وما قاله عيسى –عليه السلام- لقومه ، أتبع ذلك ببيان ما جبل عليه الكافرون من كذب على الحق ومن كراهية لظهور نوره ، فقال –تعالى- { ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب . وهو يدعي الإسلام ، والله لا يهدي القوم الظالمين ، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ولو كره الكافرون } .
3- ثم وجه –سبحانه- نداء إلى المؤمنين ، دعاهم فيه –بأبلغ أسلوب- إلى الجهاد في سبيله ، بالأنفس والأموال ، وحضهم على أن يقتدوا بالحواريين فقال : { يأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله ، قال الحواريون نحن أنصار الله ، فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم ، فأصبحوا ظاهرين } .
4- وهكذا نجد السورة الكريمة تفتتح بتنزيه الله –تعالى- عن كل نقص ، وتنهي عن أن تكون الأقوال مخالفة للأفعال ، وتبشر الذين يجاهدون في سبيل الله –تعالى- بمحبته ورضوانه ، وتذم الذين آذوا رسل الله –تعالى- وأنكروا نبوتهم بعد أن جاءوهم بالبينات ، وترشد إلى التجارة الرابحة التي توصل إلى الفوز العظيم .
نسأل الله –تعالى- أن يجعلنا جميعا من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
افتتحت سورة " الصف " - كما افتتحت قبلها سورة الحديد والحشر بتنزيه الله - تعالى - عن كل مالا يليق به .
أى : نزه الله - تعالى - وقدسه ، جميع ما فى السموات وجميع ما فى الأرض من مخلوقات ، وهو - عز وجل - { العزيز } الذى لا يغلبه غالب { الحكيم } فى كل أقواله وأفعاله .
قال الإمام أحمد رحمه الله : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة - وعن عطاء بن يسار ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام قال : تذاكرنا : أيكم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسأله : أي الأعمال أحب إلى الله ؟ فلم يقم أحد منا ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا رجلا فجمعنا فقرأ علينا هذه السورة ، يعني سورة الصف كلها . هكذا رواه الإمام أحمد{[1]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن الوليد بن مَزْيد البيروتي{[2]} قراءة قال : أخبرني أبي ، سمعت الأوزاعي ، حدثني يحيى بن أبي كثير ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، حدثني عبد الله بن سلام . أن أناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال إلى الله عز وجل ؟ فلم يذهب إليه أحد منا ، وهبنا أن نسأله عن ذلك ، قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ، ونزلت فيهم هذه السورة : ( سبح ) الصف قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها . قال أبو سلمة : وقرأها علينا عبد الله بن سلام كلها ، قال يحيى بن أبي كثير وقرأها علينا أبو سلمة كلها . قال الأوزاعي : وقرأها علينا يحيى بن أبي كثير كلها . قال أبي : وقرأها علينا الأوزاعي كلها .
وقد رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي : حدثنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتذاكرنا ، فقلنا : لو نعلم : أي الأعمال أحب إلى الله عز وجل لعملناه . فأنزل الله : " سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ] " {[3]} قال عبد الله بن سلام : فقرأها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبو سلمة : فقرأها علينا ابن سلام . قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة . قال ابن كثير : فقرأها علينا الأوزاعي . قال عبد الله : فقرأها علينا ابن كثير .
ثم قال الترمذي : وقد خولف محمد بن كثير في إسناد هذا الحديث عن الأوزاعي ، فروى ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن سلام - أو : عن أبي سلمة ، عن عبد الله بن سلام{[4]}
قلت : وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن يعمر ، عن ابن المبارك ، به{[5]}
قال الترمذي : وروى الوليد بن مسلم هذا الحديث عن الأوزاعي ، نحو رواية محمد بن كثير .
قلت : وكذا رواه الوليد بن يزيد ، عن الأوزاعي ، كما رواه ابن كثير .
قلت : وقد أخبرني بهذا الحديث الشيخ المسند أبو العباس أحمد بن أبي طالب الحجار قراءة عليه وأنا أسمع ، أخبرنا أبو المُنَجَّا عبد الله بن عُمَر بن اللَّتي{[6]} أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شُعَيب السَّجْزيّ قال : أخبرنا أبو الحسن بن عبد الرحمن بن المظفر بن محمد بن داود الداودي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حَمَّوَية السرَخسِيّ ، أخبرنا عيسى بن عُمَر بن عمران السمرقندي ، أخبرنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بجميع مسنده{[7]} أخبرنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي . . . فذكر بإسناده مثله ، وتسلسل لنا قراءتها إلى شيخنا أبي العباس الحجار ، ولم يقرأها ، لأنه كان أميا ، وضاق الوقت عن تلقينها إياه . ولكن أخبرني الحافظ الكبير أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، رحمه الله : أخبرنا القاضي تقي الدين سليمان بن الشيخ أبي عمر ، أخبرنا أبو المنجا بن اللَّتي{[8]} فذكره بإسناده ، وتَسلل{[9]} لي من طريقة ، وقرأها علي بكمالها ، ولله الحمد والمنة .
تقدم الكلام على قوله : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } غير مرة ، بما أغنى عن إعادته .
( 61 ) سورة الصف مدنية وآياتها أربع عشرة ، وهي مدنية في قول الجمهور ، وقال مكي عن ابن عباس رضي الله عنهما ، والمهدوي عن عطاء ومجاهد : إنها مكية ، والأول أصح لأن معاني السورة تعضده ، ويشبه أن يكون فيها المكي .
قوله عز وجل :{ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
قد تقدم القول غير مرة في تسبيح الجمادات ، و { العزيز } في سلطانه وقدرته ، و { الحكيم } في أفعاله وتدبيره .