فلذا قال : { وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ْ } وذلك يقتضي سلامته من الشيطان ، والشر ، والعقاب في هذه الأحوال الثلاثة وما بينها ، وأنه سالم من النار والأهوال ، ومن أهل دار السلام ، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى والده وعلى سائر المرسلين ، وجعلنا من أتباعهم ، إنه جواد كريم .
ثم ختم - سبحانه - هذه الصفات ببيان العاقبة الحسنة التى ادخرها ليحيى - عليه السلام - فقال : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أى : وتحية وأمان له منا يوم ولادته { وَيَوْمَ يَمُوتُ } ويفارق هذه الدنيا { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } للحساب يوم القيامة .
وخص - سبحانه - هذه الأوقات الثلاثة بالذكر ، لأنها أحوج إلى الرعاية من غيرها .
قال سفيان بن عيينة : أحوج ما يكون المرء فى ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه . ويوم يموت فيرى قوماً لم يكن عاينهم . ويوم يبعث فيرى نفسه فى محشر عظيم .
ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك : { وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } أي : له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال .
وقال سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد ، فيرى نفسه خارجًا مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث ، فيرى نفسه في محشر عظيم . قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه ، { وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا }
رواه ابن جرير عن أحمد بن منصور المروزي عن صدقة بن الفضل عنه .
وقوله : سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا يقول : وأمان من الله يوم ولد ، من أن يناله الشيطان من السوء ، بما ينال به بني آدم ، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «كُلّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا » .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، قال : ثني ابن العاص ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : جَبّارا عَصِيّا قال : كان ابن المسيب يذكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما مِنْ أحَدٍ يَلْقي اللّهَ يَوْمَ القِيامَةِ ، إلاّ ذَا ذَنْبٍ ، إلاّ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيّا » .
قال : وقال قتادة : ما أذنب ، ولا هم بامرأة .
وقوله : ويَوْمَ يَمُوتُ يقول : وأمان من الله تعالى ذكره له من فَتّانَيِ القبر ، ومن هول المطلع وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا يقول : وأمان له من عذاب الله يوم القيامة ، يوم الفزع الأكبر ، من أن يروعه شيء ، أو أن يفزعه ما يفزع الخلق . وقد ذكر ابن عيينة في ذلك ما :
حدثني أحمد بن منصور الفَيروزِيّ ، قال : أخبرني صدقة بن الفضل قال : سمعت ابن عطية يقول : أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ، قال : فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا ، فخصه بالسلام عليه ، فقال سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن الحسن قال : إن عيسى ويحيى التقيا فقال له عيسى : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال له الاَخر : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني ، سَلّمت على نفسي ، وسلّم الله عليك ، فعرف والله فضلها .
وقوله { وسلام } قال الطبري وغيره ، معناه وأمان ، والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان وهي أقل درجاته وإنما الشرف في أن سلام الله عليه وحياه في المواطن التي الانسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر الى الله وعظيم الهول ، وذكر الطبري عن الحسن أن عيسى ويحيى التقيا وهما ابنا الخالة فقال يحيى لعيسى : ادع لي فأنت خير مني . فقال عيسى : بل أنت ادع لي فأنت خير مني سلم الله عليك وأنا سلمت على نفسي .
قال القاضي أبو محمد : قال أبي ، رضي الله عنه : انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم فضل عيسى بأن قال إدلاله في التسليم على نفسه ومكانته من الله التي اقتضت ذلك حين قرر وحكى في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه ، ولكل وجه .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا" يقول: وأمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان من السوء بما ينال به بني آدم، وذلك أنه رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كُلّ بَنِي آدَمَ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ وَلَهُ ذَنْبٌ إلاّ ما كانَ مِنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيّا»...
وقوله: "ويَوْمَ يَمُوتُ "يقول: وأمان من الله تعالى ذكره له من فَتّانَيِ القبر، ومن هول المطلع.
"وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا" يقول: وأمان له من عذاب الله يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر، من أن يروعه شيء، أو أن يفزعه ما يفزع الخلق... [عن] ابن عطية يقول: أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم، ويوم يُبعث فيرى نفسه في محشر عظيم، قال: فأكرم الله فيها يحيى بن زكريا، فخصه بالسلام عليه، فقال "وسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ ويَوْمَ يَمُوتُ ويَوْمَ يُبْعَثُ حَيّا".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل السلام عليه الوجوه الثلاثة:
أحدهما: اسم كل بر وخير، أي عليه كل بر وخير في هذه الأحوال التي ذكر.
والثاني: السلام هو الثناء؛ أثنى الله عليه من أول أمره إلى آخره وبعد الموت في الآخرة.
والثالث: أن يكون قوله: {وسلام عليه} أي السلامة عليه في هذه الأحوال التي يكون للشيطان في تلك الأحوال الاعتراض والنَّزْعُ فيها؛ لأنه وقت الولادة يعترض، ويفسد الولد، إن وجد السبيل إليه، وكذلك عند الموت يعترض، ويسعى في إفساد أمره. فأخبر أن يحيى كان سليما سالما عن نزغات الشيطان محفوظا عنه حتى لم يرتكب خطيئة، ولا هم بها، والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعناه أن رحمة الله وسلامه اللذين هما تفضل من الله، هما على يحيى يوم ولد، وإن رحمة الله وسلامه اللذين هما جزاء لأعماله الصالحة، هما عليه يوم يموت ويوم يبعث حيا، في الآخرة. قال قوم معناه: أمان الله له وسلامه يوم ولد من عبث الشيطان له وإغوائه إياه، ويوم يموت من عذاب القبر وهول المطلع، ويوم يبعث حيا من عذاب النار وأهوال المحشر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أي له مِنَّا أمانٌ يوم القيامة، ويوم ولادته في البداية، ويوم وفاته في النهاية، وهو أن يصونَه عن الزَيْغِ والعِوَجِ في العقيدة بما يُشْهدُه على الدوام من حقيقة الإلهية. وكذلك هو في القيامة له منه -سبحانه- الأمان؛ فهو في الدنيا معصومٌ عن الزَّلَّة، محفوظٌ عن الآفة. وفي الآخرة معصومٌ عن البلاء والمحنة.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
خص هذه الأحوال بهذه الأشياء، لأن هذه الأحوال أوحش شيء فإنه عند الولادة يخرج من بطن الأم على وحشة شديدة، ويموت على وحشة شديدة، ويبعث على وحشة شديدة. ومعنى السلام هو: الأمان في هذه المواضع...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله {وسلام} قال الطبري وغيره، معناه وأمان، والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة فهي أشرف وأنبه من الأمان، لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان وهي أقل درجاته، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله وعظيم الهول...
السلام عليه يوم ولد لا بد وأن يكون تفضلا من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه ما يكون ذلك جزاء له... وأما السلام عليه يوم يموت ويوم يبعث في المحشر، فقد يجوز أن يكون ثوابا كالمدح والتعظيم، والله تعالى أعلم...
الفائدة الأولى: تعليم آداب الدعاء وهي من جهات. أحدها: قوله: {نداء خفيا} وهو يدل على أن أفضل الدعاء ما هذا حاله ويؤكد قوله تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} ولأن رفع الصوت مشعر بالقوة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الانكسار والتبري عن حول النفس وقوتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه.
وثانيها: أن المستحب أن يذكر في مقدمة الدعاء عجز النفس وضعفها كما في قوله تعالى عنه: {وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا} ثم يذكر كثرة نعم الله على ما في قوله: {ولم أكن بدعائك رب شقيا}.
وثالثها: أن يكون الدعاء لأجل شيء متعلق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال: {وإني خفت الموالي من ورائي}.
ورابعها: أن يكون الدعاء بلفظ يا رب على ما في هذا الموضع.
الفائدة الثانية: ظهور درجات زكريا ويحيى عليهما السلام أما زكريا فأمور:
أحدها: نهاية تضرعه في نفسه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكلية.
وثانيها: إجابة الله تعالى دعاءه.
وثالثها: أن الله تعالى ناداه وبشره أو الملائكة أو حصل الأمران معا.
ورابعها: اعتقال لسانه عن الكلام دون التسبيح.
وخامسها: أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام طلب الآيات لقوله رب اجعل لي آية.
الفائدة الثالثة: كونه تعالى قادرا على خلق الولد وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردا على أهل الطبائع.
الفائدة الرابعة: صحة الاستدلال في الدين لقوله تعالى: {وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا}.
الفائدة السادسة: أن الله تعالى ذكر هذه القصة في سورة آل عمران وذكرها في هذا الموضع فلنعتبر حالها في الموضعين فنقول:
الأول: أنه تعالى بين في هذه السورة أنه دعا ربه ولم يبين الوقت وبينه في آل عمران بقوله: {كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} والمعنى أن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم عليها السلام طمع فيه في حق نفسه فدعا.
الثاني: وهو أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة لقوله: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب} وفي هذه السورة الأظهر أن المنادي بقوله: {يا زكريا إنا نبشرك} هو الله تعالى وقد بينا أنه لا منافاة بين الأمرين.
الثالث: أنه قال في آل عمران: {أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} فذكر أولا كبر نفسه ثم عقر المرأة وهو في هذه السورة قال: {أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا} وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب. الرابع: قال في آل عمران: {وقد بلغني الكبر} وقال ههنا "وقد بلغت من الكبر "وجوابه أن ما بلغك فقد بلغته.
الخامس: قال في آل عمران: {آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} وقال ههنا: {ثلاث ليال سويا} وجوابه: دلت الآيتان على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهن، والله أعلم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأظهر أنه عطف على {وءاتيناه الحكم صبياً} مخاطباً به المسلمون ليعلموا كرامة يحيى عند الله. والسّلام: اسم للكلام الذي يفاتح به الزائر والراحل فيه ثناء أو دعاء. وسمي ذلك سلاماً لأنه يشتمل على الدعاء بالسلامة ولأنه يؤذن بأن الذي أقدم هو عليه مسالم له لا يخشى منه بأساً. فالمراد هنا سلام من الله عليه، وهو ثناء الله عليه، كقوله {سلام قولاً من رب رحيم} [يس: 58]. فإذا عرّف السلام باللام فالمراد به مثل المراد بالمنكّر أو مراد به العهد، أي سلام إليه، كما سيأتي في السلام على عيسى. فالمعنى: أن إكرام الله متمكن من أحواله الثلاثة المذكورة. وهذه الأحوال الثلاثة المذكورة هنا أحوال ابتداءِ أطوار: طور الورود على الدنيا، وطور الارتحال عنها، وطور الورود على الآخرة. وهذا كناية على أنه بمحل العناية الإلهية في هذه الأحوال. والمراد باليوم مطلق الزمان الواقع فيه تلك الأحوال. وجيء بالفعل المضارع في {ويوم يموت} لاستحضار الحالة التي مات فيها، ولم تذكر قصة قتله في القرآن إلاّ إجمالاً...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
السلام هو الأمن، والأمن يتضمن الأمن من عذاب الله، والظفر برضاه، وهو أكبر ما يأخذه العبد، وهذا الأمن والرضا من وقت ولادته، فهو مبارك آمن يوم ولد، ويوم يموت، ويوم ببعث حيا.
هذه مسائل ثلاث تعد أعلام حياة للإنسان: الميلاد، والموت، والبعث. وقد خصه الله بالسلام يوم مولده؛ لأنه ولد على غير العادة في الميلاد فأمه عاقر قد أسنت، ومع ذلك لم تتعرض لألسنة الناس ولم يعترض أحد على ولادتها، وهي على هذا الوصف، فلم يتجرأ أحد عليها؛ لأن ما حدث لها كان آية من آيات الله وقد بشر الله بها زكريا لتكون البشرى إعدادا ومقدمة لهذا الحدث العجيب. وخصه بالسلام يوم يموت؛ لأنه سيموت شهيدا، والشهادة غير الموت، الشهادة تعطيه حياة موصولة بالحياة الأبدية الخالدة. وكذلك خصه يوم القيامة يوم يبعث حيا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} فأراده الله أن يكون محلاً لكرامته، وموضعاً لرحمته، {وَيَوْمَ يَمُوتُ} حيث ينتقل إلى رحاب الله وفي روحه كل مشاعر السلام للناس وللحياة، {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} حيث يعيش هناك السلام المنفتح على الله، فيقوده ذلك إلى رحاب الجنة التي هي دار السلام. ماذا نستوحي من القصة؟
وقد نستوحي من قصة زكريا ويحيى أن الإنسان المؤمن لا يسقط في مشاعر اليأس الخانقة عندما تحاصره الموانع الطبيعية التي قد توحي إليه باستحالة ما يطلبه واقعياً، بل يبقى في أجواء الأمل الروحية التي تنفتح على قدرة الله ورحمته، وذلك من خلال عالم الغيب الذي يطل على الآفاق غير العادية من حياة الناس في ألطاف الله الواسعة، عندما يرزقه من حيث لا يحتسب، ويحرسه من حيث لا يحترس، ويحقق له الكثير من أحلامه من حيث لا ينتظر… فإن لنا أن نستوحي في قصة زكريا القدرة الإلهية على تحدي الصعوبات المادية، وألاّ نستبعد الغيب في حياتنا الواقعية، لا سيما في الأوضاع المعقّدة الصعبة والتحديات القوية من أعداء الله، ما قد يمنحنا القدرة على التماسك، وعلى حفظ توازن الموقف وصلابته، أمام حالات الاهتزاز الروحي والفكري والعملي، الذي يمكن أن يتأتى عن مصادر الضغط المختلفة لننتظر الفرج القادم من عمق الغيب في ما يثيره في حياتنا من قضايا غير اعتيادية، في ما يحركه الله في الساحة من غامض علمه، مما لم نستطع اكتشافه بإحساسنا المادي.
ثم إننا نلاحظ هذه الروحية التي تجعله يفكر بالولد المؤَّمل المطلوب من الله خوفاً منه على مستقبل الرسالة، إذا تسلّمها من ليسوا في مستوى المسؤولية من الأقرباء الغرباء عن مواقعها الأصيلة. ولذلك فإنه يريد الولد الرضيّ الذي يتسلم المهمة من موقع الكفاءة الروحية والأخلاقية والعملية، ليحفظ الساحة من كل اهتزاز وانحراف واستغلال. وإذا كنا مصيبين في استفادتنا هذا المعنى من الآيات، فإن ذلك يؤكد لنا أن همّ الإنسان الرسالي الكبير هو مستقبل الأمة، وليس فقط حاضرها، لأن تفكيره لا يقتصر على الحاضر فقط، بل يتعداه إلى المستقبل في نظرته إلى حركة الرسالة في الحياة؛ كما يوحي إلينا بأن الولد الذي يعيش في أمنياته، لا يمثل مجرد حاجة ذاتية حدودها الرغبة الإنسانية في امتداد الحياة عبر الأولاد تحقيقاً لرغبة خفيّةٍ بالخلود، ولو عن طريق غير مباشر، بل يمثل حاجةً رساليةً لإكمال مشاريع رسالته الفكرية والعملية من خلال أقرب الناس إليه وهو من يعتبر امتداداً لحركته الفاعلة على أكثر من صعيد. أما يحيى، فهو صورة الإنسان الرضيّ التقيّ الزكيّ الذي يعيش الوداعة، والروحانية والطهارة، والالتزام الواعي بالخط الإلهي، الذي يريد الله للإنسان أن يتعمّق فيه من خلال روح التقوى ليحرك الحياة من حوله من خلال تلك الروح، ولكن ذلك لا يمنعه من أن يحمل الكتاب بقوة، ويتحدّى الواقع المنحرف بإيمان، في وداعة تفتح القلوب على الحق من موقع أخلاقيٍّ، وقوة تربط الإرادة بالموقف الرسالي، ليحطم الحواجز من بين يديه ومن خلفه، وليفتح الساحة الضعيفة على كلمات الله من قاعدة القوة، ليكون ذلك مثلاً حياً للداعية الواعي الذي يحب الناس في وداعته وروحانيته، ويحب الرسالة في حركة الدعوة إلى الله في قوتها وصلابتها، وهو مثل تفتقر إليه الحياة في حركة الوسائل لتحقيق الأهداف.