مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا} (15)

الصفة التاسعة : قوله : { وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا } وفيه أقوال : أحدها : قال محمد بن جرير الطبري : { وسلام عليه } أي أمان من الله يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم : { ويوم يموت } أي وأمان عليه من عذاب القبر : { ويوم يبعث حيا } أي ومن عذاب القيامة .

وثانيها : قال سفيان بن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ، ويوم يموت فيرى قوما ما شاهدهم قط ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم فأكرم الله يحيى عليه الصلاة والسلام فخصه بالسلام عليه في هذه المواطن الثلاثة . وثالثها : قال عبد الله بن نفطويه : { وسلام عليه يوم ولد } أي أول ما يرى الدنيا { ويوم يموت } أي أول يوم يرى فيه أول أمر الآخرة { ويوم يبعث حيا } أي أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة . وإنما قال : { حيا } تنبيها على كونه من الشهداء لقوله تعالى : { بل أحياء عند ربهم يرزقون } فروع . الأول : هذا السلام يمكن أن يكون من الله تعالى وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين فدلالة شرفه وفضله لا تختلف لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر الله تعالى . الثاني : ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء عليهم السلام كقوله : { سلام على نوح في العالمين } . { سلام على إبراهيم } لأنه قال و{ يوم ولد } وليس ذلك لسائر الأنبياء عليهم السلام . الثالث : روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى عليه السلام : أنت أفضل مني لأن الله تعالى سلم عليك وأنا سلمت على نفسي ، وهذا ليس يقوى لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام الله على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمره الله به . الرابع : السلام عليه يوم ولد لا بد وأن يكون تفضلا من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه ما يكون ذلك جزاء له ، وأما السلام عليه يوم يموت ويوم يبعث في المحشر ، فقد يجوز أن يكون ثوابا كالمدح والتعظيم ، والله تعالى أعلم . القول في فوائد هذه القصة . الفائدة الأولى : تعليم آداب الدعاء وهي من جهات . أحدها : قوله : { نداء خفيا } وهو يدل على أن أفضل الدعاء ما هذا حاله ويؤكد قوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } ولأن رفع الصوت مشعر بالقوة والجلادة وإخفاء الصوت مشعر بالضعف والانكسار وعمدة الدعاء الانكسار والتبري عن حول النفس وقوتها والاعتماد على فضل الله تعالى وإحسانه . وثانيها : أن المستحب أن يذكر في مقدمة الدعاء عجز النفس وضعفها كما في قوله تعالى عنه : { وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا } ثم يذكر كثرة نعم الله على ما في قوله : { ولم أكن بدعائك رب شقيا } .

وثالثها : أن يكون الدعاء لأجل شيء متعلق بالدين لا لمحض الدنيا كما قال : { وإني خفت الموالي من ورائي } . ورابعها : أن يكون الدعاء بلفظ يا رب على ما في هذا الموضع . الفائدة الثانية : ظهور درجات زكريا ويحيى عليهما السلام أما زكريا فأمور : أحدها : نهاية تضرعه في نفسه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكلية . وثانيها : إجابة الله تعالى دعاءه . وثالثها : أن الله تعالى ناداه وبشره أو الملائكة أو حصل الأمران معا . ورابعها : اعتقال لسانه عن الكلام دون التسبيح . وخامسها : أنه يجوز للأنبياء عليهم السلام طلب الآيات لقوله رب اجعل لي آية . الفائدة الثالثة : كونه تعالى قادرا على خلق الولد وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردا على أهل الطبائع . الفائدة الرابعة : صحة الاستدلال في الدين لقوله تعالى : { وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } . الفائدة الخامسة : أن المعدوم ليس بشيء والآية نص في ذلك فإن قيل المراد ولم تك شيئا مذكورا كما في قوله تعالى : { هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا } قلنا : الإضمار خلاف الأصل وللخصم أن يقول الآية تدل على أن الإنسان لم يكن شيئا ونحن نقول به لأن الإنسان عبارة عن جواهر متألفة قامت بها أعراض مخصوصة والجواهر المتألفة الموصوفة بالأعراض المخصوصة غير ثابتة في العدم إنما الثابت هو أعيان تلك الجواهر مفردة غير مركبة وهي ليست بإنسان فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب . الفائدة السادسة : أن الله تعالى ذكر هذه القصة في سورة آل عمران وذكرها في هذا الموضع فلنعتبر حالها في الموضعين فنقول : الأول : أنه تعالى بين في هذه السورة أنه دعا ربه ولم يبين الوقت وبينه في آل عمران بقوله : { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } والمعنى أن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم عليها السلام طمع فيه في حق نفسه فدعا . الثاني : وهو أن الله تعالى صرح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة لقوله : { فنادته الملائكة وهو قائم يصلى في المحراب } وفي هذه السورة الأظهر أن المنادي بقوله : { يا زكريا إنا نبشرك } هو الله تعالى وقد بينا أنه لا منافاة بين الأمرين . الثالث : أنه قال في آل عمران : { أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } فذكر أولا كبر نفسه ثم عقر المرأة وهو في هذه السورة قال : { أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا } وجوابه أن الواو لا تقتضي الترتيب . الرابع : قال في آل عمران : { وقد بلغني الكبر } وقال ههنا وقد بلغت من الكبر وجوابه أن ما بلغك فقد بلغته . الخامس : قال في آل عمران : { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا } وقال ههنا : { ثلاث ليال سويا } وجوابه : دلت الآيتان على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهن ، والله أعلم . القصة الثانية : قصة مريم وكيفية ولادة عيسى عليه السلام اعلم أنه تعالى إنما قدم قصة يحيى على قصة عيسى عليهما السلام لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد لا من الأب ألبتة وأحسن الطرق في التعليم والتفهيم الأخذ من الأقرب فالأقرب مترقيا إلى الأصعب فالأصعب .