السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا} (15)

الصفة الثامنة قوله تعالى : { وسلام عليه } منا { يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً } . فإن قيل : لم خص هذه الأوقات الثلاثة ؟ أجيب : بوجوه :

الأول : قال محمد بن جرير الطبري : { وسلام عليه يوم ولد } أي : أمان من اللّه تعالى عليه يوم ولد من أن يناله الشيطان كما ينال سائر بني آدم { ويوم يموت } أي : أمان من اللّه من عذاب القبر ، { ويوم يبعث } أي : ومن عذاب اللّه يوم القيامة .

الثاني : قال ابن عيينة أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن ؛ يوم ولد فيرى نفسه خارجاً مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوماً ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى في محشر عظيم ، فأكرم اللّه تعالى يحيى فخصه بالسلام في هذه المواطن .

الثالث : قال عبد اللّه بن نفطوية : { وسلام عليه يوم ولد } أي : أوّل ما يرى في الدنيا { ويوم يموت } أي : أول يوم يرى فيه أمر الآخرة ، { ويوم يبعث حياً } أي : أول يوم يرى فيه الجنة والنار وهو يوم القيامة وإنما قال : { حياً } تنبيهاً على كونه من الشهداء لأنه قتل ، وقد قال تعالى { أحياء عند ربهم يرزقون } [ آل عمران ، 169 ] .

فروع : الأول : هذا السلام يمكن أن يكون من اللّه وأن يكون من الملائكة وعلى التقديرين ففيه دلالة على تشريفه لأن الملائكة لا يسلمون إلا عن أمر اللّه تعالى .

الثاني : ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء لقوله تعالى : { سلام على نوح } [ الصافات ، 79 ]

{ سلام على إبراهيم } [ الصافات ، 109 ] لأنه تعالى قال : { يوم ولد } وليس كذلك سائر الأنبياء .

الثالث : روي أن عيسى عليه السلام قال ليحيى : أنت أفضل مني لأن اللّه تعالى قال : { سلام عليه } وأنا سلمت على نفسي ، قال الرازي : وهذا ليس بقوي لأن سلام عيسى على نفسه يجري مجرى سلام اللّه تعالى على يحيى لأن عيسى معصوم لا يفعل إلا ما أمر اللّه تعالى انتهى ولكن بين السلامين مزية .

تنبيه : هذه القصة قد ذكرت في آل عمران بقوله تعالى : { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً } [ آل عمران ، 37 ] إلى أن قال : { هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء 38 فنادته الملائكة وهو قائم } [ آل عمران ، 38 ، 39 ] لأن زكريا عليه السلام لما رأى خرق العادة في حق مريم طمع في حق نفسه فدعا وقد وقعت المخالفة في ذكر ما هنا وهناك في الألفاظ من وجوه ، الأول منها : أن اللّه تعالى صرّح في آل عمران بأن المنادي هو الملائكة بقوله تعالى : { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } [ آل عمران ، 39 ] وفي هذه السورة الأكثر على أن المنادي بقوله : { يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى } هو اللّه تعالى وأجيب : بأن اللّه تعالى هو المبشر سواء كان بواسطة أم لا ، الثاني : أنه قال تعالى في آل عمران : { أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } [ آل عمران ، 40 ] فذكر أولاً كبر سنه ثم عقر امرأته ، وفي هذه السورة قال : { أنّى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً } ، وأجيب بأن الواو لا تقتضي الترتيب ، الثالث : قال في آل عمران { وقد بلغني الكبر } ، وقال هنا : { وقد بلغت من الكبر عتياً } وأجيب بأن ما بلغك فقد بلغته ، الرابع : قال في آل عمران : { آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزاً } [ آل عمران ، 41 ] ، وقال هنا : { ثلاث ليال سوياً } وأجيب : بأن الآيتين دلتا على أن المراد ثلاثة أيام بلياليهنّ كما مرّ .

القصة الثانية : قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام ولما كانت قصة عيسى عليه السلام أغرب من قصة يحيى لأن خلق الولد من شخصين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من خلق الولد لا من أب البتة وأحسن طرق التعليم والفهم الأخذ من الأقرب فالأقرب مرتقياً إلى الأصعب فالأصعب ، أشار إلى ذلك بتغيير السياق فقال عاطفاً على ما تقديره اذكر هذا لهم .