قوله : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } .
قال محمد بن جرير الطبريُّ{[21468]} { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أمانٌ من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين ، كما تناولُ سائر بني آدم { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : وأمانٌ عليه من عذاب القبر ، { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } أي : ومن عذاب يوم القيامة .
وقال سفيان بن عيينة{[21469]} : أوحشُ ما يكونُ الإنسان في هذه الأحوال [ الثلاثة يوم يُولَدُ ]{[21470]} ، فيرى نفسه خارجاً [ مما كان فيه ، ويوم يموتُ ، فيرى يوماً ، لم يكن عاينهُ ، ويوم يبعثُ ، فيرى نفسهُ ]{[21471]} في محشرٍ عظيمٍ ، لم ير مثله ، فأكرم الله يحيى -عليه السلام- فخصَّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة .
قال عبدُ الله بن نفطويه : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أوَّل ما رأى الدُّنيا ، { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : أول يوم يرى فيه أمْرً الآخرة { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } أوَّل يومٍ يرى فيه الجنَّة والنَّار .
السلام يمكن أن يكون من الله ، وأن يكون من الملائكة ، وعلى التقديرين ، فيدلُّ على شرفه وفضله ؛ لأنَّ الملائكة لا يسَلَِّمون إلا عن أمر الله .
ويدلُّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء ؛ كقوله تعالى : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] { سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ } [ الصافات : 109 ] . وقال ليحيى : { يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } . وليس لسائر الأنبياء .
ورُوِي أن عيسى -عليه السلام- قال ليحيى -عليه السلام- : أنت أفضلُ منِّي ؛ لأنَّ الله تعالى قال : سلامٌ عليك وأنا سلَّمتُ على نفسي .
وأجاب الحسن عن هذا ، فقال : هذا يجري مجرى سلام الله على عيسى ؛ لأن عيسى معصومٌ ، لا يفعل إلا ما أمره الله به .
واعلم : أنَّ السَّلام عليه يوم ولد يكون تفضُّلاً من الله تعالى ؛ لأنه لم يتقدَّمه عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له ، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيَّاً ، فيجوزُ أن يكُون ثواباً ؛ كالمَدْح والتَّعْظِيم{[21472]} .
في فوائد هذه القصَّة [ أمورٌ ]{[21473]} منها :
تعليمُ آداب الدعاء ، وهو قوله : { نِدَاءً خفيًّا } يدلُّ على أفضل الدعاء خفيةً ويؤكِّدهُ قوله تعالى :
{ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار ، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها ، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه .
ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها ؛ كقوله : { وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً } ثم يذكر نعم الله تعالى ؛ كقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا ، كقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي } وأن يكون الدُّعاء بلفظ : يا ربِّ .
كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا ، ويحيى -عليهما السلام- أما زكريَّا ؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة ، وإجابة الله تعالى دعاءه ، وأن الله تعالى بشَّره ، وبشَّرته الملائكةُ ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح .
وأمَّا يحيى ؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا ، وقوله { يا يحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } ، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً ، وتقيًّا ، وبرًّا بوالديه ، ولم يكن جبَّاراً ، ولم يعص قطٌّ ، ولا همَّ بمعصية ، ثم سلَّم عليه يوم ولد ، ويوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيًّا .
ومنها : كونُه تعالى قادراً على خلق الولد ، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع .
ومنها : أن المعدوم ليس بشيءٍ ؛ لقوله : { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } .
فإن قيل : المرادُ " ولم تَكُ شيئاً مَذْكُوراً " كما في قوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] .
فالجوابُ{[21474]} : أنَّ الإضمار خلافُ الأصل ، وللخصم أن يقول : الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً ، ونحنُ نقولُ به ؛ لأنَّ الإنسانَ عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليست ثابتة في العدمِ{[21475]} ، وإنَّما الثابتُ هو [ أعيانُ ]{[21476]} تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة ، وهي ليست بالإنسان ، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب . ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في " آل عمران " ، وذكرها في هذه السورة ، فلنعتبر حالها في الموضعين ، فنقول : إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه ، ولم يبين الوقت ، وبينه في " آل عمران " بقوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } [ آل عمران : 38 ] إلى أن قال : " هنالك دعا زكريا ربه قال : ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " ، والمعنى أن زكريا -عليه السلام- لما رأى خرق العادة في حق مريم ، طمع في حق نفسه ، فدعا ربه ، وصرح في " آل عمران " بأن المنادي هو الملائكة ، بقوله : { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب } [ آل عمران : 39 ] ، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله : { يا زكريا إنا نبشرك } هو الله تعالى ، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما .
وقال في آل عمران { أنّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] فذكر أولاً كبر نفسه ، ثم عقر المرأة وهاهنا قال : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وجوابه : أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب .
وقال في " آل عمران " : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } [ آل عمران : 40 ] وقال هاهنا : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وجوابه : أن ما بلغك فقد بلغته .
وقال في آل عمران : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر } [ آل عمران : 41 ] .
وقال هاهنا { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } .
وجوابه : أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ . والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.