اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَسَلَٰمٌ عَلَيۡهِ يَوۡمَ وُلِدَ وَيَوۡمَ يَمُوتُ وَيَوۡمَ يُبۡعَثُ حَيّٗا} (15)

قوله : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } .

قال محمد بن جرير الطبريُّ{[21468]} { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أمانٌ من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين ، كما تناولُ سائر بني آدم { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : وأمانٌ عليه من عذاب القبر ، { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } أي : ومن عذاب يوم القيامة .

وقال سفيان بن عيينة{[21469]} : أوحشُ ما يكونُ الإنسان في هذه الأحوال [ الثلاثة يوم يُولَدُ ]{[21470]} ، فيرى نفسه خارجاً [ مما كان فيه ، ويوم يموتُ ، فيرى يوماً ، لم يكن عاينهُ ، ويوم يبعثُ ، فيرى نفسهُ ]{[21471]} في محشرٍ عظيمٍ ، لم ير مثله ، فأكرم الله يحيى -عليه السلام- فخصَّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة .

قال عبدُ الله بن نفطويه : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } أي : أوَّل ما رأى الدُّنيا ، { وَيَوْمَ يَمُوتُ } أي : أول يوم يرى فيه أمْرً الآخرة { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } أوَّل يومٍ يرى فيه الجنَّة والنَّار .

فصل في مزية السلام على يحيى

السلام يمكن أن يكون من الله ، وأن يكون من الملائكة ، وعلى التقديرين ، فيدلُّ على شرفه وفضله ؛ لأنَّ الملائكة لا يسَلَِّمون إلا عن أمر الله .

ويدلُّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء ؛ كقوله تعالى : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } [ الصافات : 79 ] { سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ } [ الصافات : 109 ] . وقال ليحيى : { يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } . وليس لسائر الأنبياء .

ورُوِي أن عيسى -عليه السلام- قال ليحيى -عليه السلام- : أنت أفضلُ منِّي ؛ لأنَّ الله تعالى قال : سلامٌ عليك وأنا سلَّمتُ على نفسي .

وأجاب الحسن عن هذا ، فقال : هذا يجري مجرى سلام الله على عيسى ؛ لأن عيسى معصومٌ ، لا يفعل إلا ما أمره الله به .

واعلم : أنَّ السَّلام عليه يوم ولد يكون تفضُّلاً من الله تعالى ؛ لأنه لم يتقدَّمه عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له ، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيَّاً ، فيجوزُ أن يكُون ثواباً ؛ كالمَدْح والتَّعْظِيم{[21472]} .

فصل في فوائد هذه القصة

في فوائد هذه القصَّة [ أمورٌ ]{[21473]} منها :

تعليمُ آداب الدعاء ، وهو قوله : { نِدَاءً خفيًّا } يدلُّ على أفضل الدعاء خفيةً ويؤكِّدهُ قوله تعالى :

{ ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأعراف : 55 ] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار ، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها ، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه .

ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها ؛ كقوله : { وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً } ثم يذكر نعم الله تعالى ؛ كقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا ، كقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي } وأن يكون الدُّعاء بلفظ : يا ربِّ .

كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا ، ويحيى -عليهما السلام- أما زكريَّا ؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة ، وإجابة الله تعالى دعاءه ، وأن الله تعالى بشَّره ، وبشَّرته الملائكةُ ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح .

وأمَّا يحيى ؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا ، وقوله { يا يحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } ، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً ، وتقيًّا ، وبرًّا بوالديه ، ولم يكن جبَّاراً ، ولم يعص قطٌّ ، ولا همَّ بمعصية ، ثم سلَّم عليه يوم ولد ، ويوم يموتُ ، ويوم يبعثُ حيًّا .

ومنها : كونُه تعالى قادراً على خلق الولد ، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع .

ومنها : أن المعدوم ليس بشيءٍ ؛ لقوله : { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } .

فإن قيل : المرادُ " ولم تَكُ شيئاً مَذْكُوراً " كما في قوله : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] .

فالجوابُ{[21474]} : أنَّ الإضمار خلافُ الأصل ، وللخصم أن يقول : الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً ، ونحنُ نقولُ به ؛ لأنَّ الإنسانَ عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليست ثابتة في العدمِ{[21475]} ، وإنَّما الثابتُ هو [ أعيانُ ]{[21476]} تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة ، وهي ليست بالإنسان ، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب . ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في " آل عمران " ، وذكرها في هذه السورة ، فلنعتبر حالها في الموضعين ، فنقول : إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه ، ولم يبين الوقت ، وبينه في " آل عمران " بقوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } [ آل عمران : 38 ] إلى أن قال : " هنالك دعا زكريا ربه قال : ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " ، والمعنى أن زكريا -عليه السلام- لما رأى خرق العادة في حق مريم ، طمع في حق نفسه ، فدعا ربه ، وصرح في " آل عمران " بأن المنادي هو الملائكة ، بقوله : { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب } [ آل عمران : 39 ] ، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله : { يا زكريا إنا نبشرك } هو الله تعالى ، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما .

وقال في آل عمران { أنّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ } [ آل عمران : 40 ] فذكر أولاً كبر نفسه ، ثم عقر المرأة وهاهنا قال : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وجوابه : أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب .

وقال في " آل عمران " : { وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر } [ آل عمران : 40 ] وقال هاهنا : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } وجوابه : أن ما بلغك فقد بلغته .

وقال في آل عمران : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر } [ آل عمران : 41 ] .

وقال هاهنا { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } .

وجوابه : أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ . والله أعلم .


[21468]:ينظر: تفسير الطبري (8/318).
[21469]:ذكره الرازي (21/165).
[21470]:سقط في ب.
[21471]:سقط في ب.
[21472]:ذكره الرازي (21/165).
[21473]:سقط من: ب.
[21474]:ينظر: الفخر الرازي 21/166.
[21475]:في ب: المعدوم.
[21476]:في ب: الاعتبار.