قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار } . قال عطاء والسدي : هو ما الاستفهام معناه ما الذي صبرهم على النار ، وأي شيء صبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل . وقال الحسن وقتادة : والله ما لهم عليها من صبر ، ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار . وقال الكسائي : فما أصبرهم على عمل النار أي ما أدومهم عليه .
ثم بين - سبحانه - ما هم عليه من جهل وغباء وسوء عاقبة فقال : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة } .
الاشتراء : استبدال السلعة بالثمن . والمعنى : أولئك الذين تقدم الحديث عنهم وهم الكاتمون لما أنزل الله قد بلغ بهم الغباء وانطماس البصيرة أنهم باعوا الهدى والإِيمان ليأخذوا في مقابلهما الكفر والضلال ، وباعوا ما يوصلهم إلى مغفرة الله ورحمته ليأخذوا في مقابل ذلك عذابه ونقمته ، فما أخسرها من صفقة ، وما أغبى هؤلاء الكاتمين الذين فعلوا ذلك نظير عرض من أعراض الدنيا الفانية ، فخسروا بما فعلوه دنياهم وآخرتهم .
وقوله - تعالى - : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } معناه : فما أدومهم على عمل المعاصي التي تؤدي بهم إلى النار حتى لكأنهم بإصرارم على عملهم يجلبون النار إليهم جلباً . ويقصدون إليها قصداص بدون مبالاة أو تفكر .
والمراد من التعجب في هذه الآية وأشباهها ، الإِعلام بحالهم وأنهن ينبغي أن يتعجب منها كل أحد ، وذلك لأن المعنى الظاهر من الجملةالتعجب من صبر أولئك الكفارعلى النار ، والتعجب انفعال - يحدث في النفس عند الشعور بأمر يجهل سببه وهو غير جائز في حقه - تعالى - لأنه لا يخفى عليه شيء ، ومن هنا قال العلماء : إن فعل التعجب في كلام الله المراد منه التعجب ، أي : جعل الغير يتعجب من ذلك الفعل ، وهو هنا صبرهم على النار ، فيكون المقصود تعجيب المؤمنين من جراءة أولئك الكاتمين لما أنزل الله على اقترافهم ما يلقى بهم في النار ، شأن الواثق من صبره على عذابها المقيم .
وشبيه بهذا الأسلوب في التعجب - كما أشار صاحب الكشاف - أن تقول لمن يتعرض لما يوجب غضب السلطان : ما أصبرك على القيد والسجن فأنت لا تريد التعجب من صبره ، وإنما تريد إفهامه أن التعرض لما يغضبه لا يقع إلا ممن شأنه الصبر على القيد والسجن ، والمقصود بذلك تحذيره من التمادي فيما يوجب غضب ذلك السلطان .
قال الجمل ما ملخصه وما في قوله { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ } - وفي مثل هذا التركيب - فيها أوجه : .
أحدها : وهو قول سيبويه والجمهور أنها نكرة تامة غير موصولة ولا موصوفة وأن معناها التعجب فإذا قلت . ما أحسن زيداً ، فمعناه : شيء صير زيداً حسنا .
والثاني : وإليه ذهب الفراء : أنها استفهامية صحبها معنى التعجب ، نحو : " كيف تكفرون بالله " .
والثالث : ويعزي للأخفش : أنها موصولة .
والرابع ويعزى له أيضاً : أنها نكرة موصوفة وهي على هذه الأقوال الأربعة في محل رفع بالابتداء وخبرها على القولين الأولين الجملة الفعلية بعدها ، وعلى قولى الأخفش يكون الخبر محذوفاً .
ثم قال تعالى مخبرا عنهم : { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى } أي : اعتاضوا عن الهدى ، وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه ، استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه بالضلالة ، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم { وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ } أي : اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطَوْه من أسبابه المذكورة .
وقوله تعالى : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } يخبر تعالى أنَّهم في عذاب شديد عظيم هائل ، يتعجَّبُ من رآهم فيها من صبرهم على ذلك ، مع{[3083]} شدة ما هم فيه من العذاب ، والنكال ، والأغلال عياذًا بالله من ذلك .
[ وقيل معنى قوله : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } أي : ما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار ]{[3084]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { أُولََئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضّلاَلَةَ بِالْهُدَىَ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النّارِ }
يعني تعالى ذكره بقوله : أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضّلالَةَ بالهُدَى أولئك الذين أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة وتركوا ما يوجب لهم غفرانه ورضوانه . فاستغنى بذكر العذاب والمغفرة من ذكر السبب الذي يوجبهما ، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه . وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى ، وكذلك بينا وجه : اشْتَرَوُا الضّلالَةَ بالهُدَى باختلاف المختلفين والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول فيما مضى قبل فكرهنا إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَا أصْبَرَهُمْ على الّنار .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : فما أجرأهم على العمل الذي يقرّبهم إلى النار . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّار يقول : فما أجرأهم على العمل الذي يقرّبهم إلى النار .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّار يقول : فما أجرأهم عليها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن بشر ، عن الحسن في قوله : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ قال : والله ما لهم عليها من صبر ، ولكن ما أجرأهم على النار .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا مسعر . وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو بكير ، قال : حدثنا مسعر ، عن حماد ، عن مجاهد أو سعيد بن جبير أو بعض أصحابه : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ ما أجرأهم .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ يقول : ما أجرأهم وأصبرهم على النار .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : فما أعملهم بأعمال أهل النار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ قال : ما أعملهم بالباطل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
واختلفوا في تأويل ( ما ) التي في قوله : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ فقال بعضهم : هي بمعنى الاستفهام ، وكأنه قال : فما الذي صبرهم ، أيّ شيء صبرهم ؟ ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّار هذا على وجه الاستفهام ، يقول : ما الذي أصبرهم على النار .
حدثني عباس بن محمد ، قال : حدثنا حجاج الأعور ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : قال لي عطاء : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ قال : ما يصبرهم على النار حين تركوا الحق واتبعوا الباطل .
حدثنا أبو كريب ، قال : سئل أبو بكر بن عياش : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ قال : هذا استفهام ، ولو كانت من الصبر قال : «فما أصبرُهم » رفعا ، قال : يقال للرجل : «ما أصبرك » ، ما الذي فعل بك هذا ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ قال : هذا استفهام ، يقول : ما هذا الذي صبرهم على النار حتى جرأهم فعملوا بهذا ؟
وقال آخرون : هو تعجب ، يعني : فما أشد جراءتهم على النار بعملهم أعمال أهل النار ذكر من قال ذلك :
حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَا أصْبَرَهُمْ على النّارِ قال : ما أعملهم بأعمال أهل النار . وهو قول الحسن وقتادة ، وقد ذكرناه قبل .
فمن قال هو تعجب ، وجه تأويل الكلام إلى : أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أشدّ جراءتهم بفعلهم ما فعلوا من ذلك على ما يوجب لهم النار ، كما قال تعالى ذكره : قُتِلَ الإنْسانُ ما أكْفَرَهُ تعجبا من كفره بالذي خلقه وسوّى خلقه .
فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام فمعناه : هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصْبَرَهم على النار والنار لا صبر عليها لأحد حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلاً ؟ .
وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : ما أجرأهم على النار ، بمعنى : ما أجرأهم على عذاب النار ، وأعملهم بأعمال أهلها وذلك أنه مسموع من العرب : ما أصبر فلانا على الله ، بمعنى : ما أجرأ فلانا على الله ، وإنما يعجب الله خلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته ، واشترائهم بكتمان ذلك ثمنا قليلاً من السحت والرشا التي أعطوها ، على وجه التعجب من تقدمهم على ذلك مع علمهم بأن ذلك موجب لهم سخط الله وأليم عقابه .
وإنما معنى ذلك : «فما أجرأهم على عذاب النار » ولكن اجتزىء بذكر النار من ذكر عذابها كما يقال : ما أشبه سخاءك بحاتم ، بمعنى : ما أشبه سخاءك بسخاء حاتم ، وما أشبه شجاعتك بعنترة .
{ أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } في الدنيا . { والعذاب بالمغفرة } في الآخرة بكتمان الحق للمطامع والأغراض الدنيوية . { فما أصبرهم على النار } تعجب من حالهم في الالتباس بموجبات النار من غيره مبالاة . وما تامة مرفوعة بالابتداء ، وتخصيصها كتخصيص قولهم .
أو استفهامية وما بعدها الخبر ، أو موصولة وما بعدها صلة والخبر محذوف .