اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡعَذَابَ بِٱلۡمَغۡفِرَةِۚ فَمَآ أَصۡبَرَهُمۡ عَلَى ٱلنَّارِ} (175)

اعلم أنَّ أَحْسَنَ الأشياء في الدُّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضَّلال والجَهْل فَلَمَّا تركُوا الهُدَى في الدُّنيا ، ورضُوا بالضَّلال والجهل ، فلا شَكَّ أَنَّهُمْ في نهاية الخَسَارة في الدنيا ، وَأَمَّا في الآخرة ، فأحسن{[2372]} الأشياء المَغْفِرة ، وأخْسَرُها العذَابُ ، فَلَمَّا صرفوا المغفرة ، ورضُوا بالعَذَاب ، فلا جَرَم : أنهم في نهاية الخَسَارة ، ومَنْ كانت هذه صفتَهُ ، فهو أعْظَمُ النَّاس خسارةً في الدُّنيا والآخِرَة .

قولُهُ { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } في " ما " هذه خمسةُ أقْوالٍ :

أحدها : وهو قول سيبويه{[2373]} ، والجُمهُور : أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة ، ولا موصوفةٍ ، وَأَنَّ معناها التعجُّب ، فإذَا قُلْتَ : " مَا أَحْسَنَ زَيْداً " ، فمعناهُ : شيءٌ صَيَّرَ زَيْداً حَسَناً .

الثاني : قولُ الفراء{[2374]}- رحمه الله تعالى - أَنَّهَا استفهاميَّةٌ صَحِبَها معنى التعجُّب ؛ نحو " كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ " .

قال عطَاءٌ ، والسُّدِّيُّ : هو " ما " الاستفهام ، معناه : ما الَّذي صَبَّرهم على النَّار ؟ وأيُّ شيء صَبَّرهم على النَّار ؛ حتى تَرَكُوا الحَقَّ ، واتبعوا البَاطِلَ{[2375]} .

قال الحَسَن ، وقَتادة : " والله ما لهم عَلَيْها من صَبْر ، ولكنْ ما أجرأهم على العمل الَّذي يقرِّبهم إلى النار{[2376]} " وهي لغة يَمَنية معروفةٌ .

قال الفراء : أخبرني الكسائيُّ قال : أخبرني قاضي " اليَمَنِ " أَنَّ خَصْمَينِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فوجَبَتِ اليمينُ على أحدهِمَا ، فحلَفَ ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ : ما أصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ ؟ أي : ما أجرأك عليه{[2377]} .

وحكى الزَّجَّاجُّ : ما أبقاهُمْ على النَّار ، من قولِهِم : " مَا أَصْبَرَ فُلاَناً على الحَبْس " ، أي : ما أبقاهُ فيه{[2378]} .

والثالث : ويُعْزَى للأخفش{[2379]} [ أَنَّهَا موصُولةٌ .

الرابع : ويُعْزَى له أيضاً : أنها نكرةٌ موصوفةٌ وهي على الأقوال الأربعة في مَحَلِّ رفع بالابتداءِ ، وخبرها على القَوْلين الأولَيْن : الجملةُ الفعليَّة بعدَها ، وعلى قوْلي الأخْفَش ]{[2380]} : يكون الخبر مَحذوفاً فإنَّ الجملة بعدها إما أن تكون صلةً ، أو صفةً . وكذلك اختلفُوا في أفْعَل الواقع بعدها ، أهو اسمٌ ؟ وهو قول الكوفيِّن ، أم فعل ؟ وهو الصحيحُ ، ويترتَّب على هذا الخلاَفِ خلافٌ في نصْب الاسْمِ بعده ، هَلْ هو مفعولٌ به ، أو مشبَّه بالمعفول به ، ولكلٍّ مِنَ المذْهَبَين دلائلُ ، واعتراضات وأجوبةٌ ليس هذا موضعها .

والمراد بالتعجُّب هنا ، وفي سائر القُرْآن : الإعلامُ بحالهم ؛ إنَّها ينبغي أنْ يتعجَّب منها ، وإلا فالتعجب مستحيلٌ في حقِّه تعالى ، ومعنى عَلَى النَّارِ ، أي : على عمل أهْل النار ، قاله الكِسَائيُّ ، وهذا من مجاز الكَلاَمِ .

الخامس : أنَّها نافيةٌ ، أَي : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } . نقله أَبُوا البقاء{[2381]} .


[2372]:- في ب: فأخسروا.
[2373]:- ينظر: الكتاب لسيبويه 1/37.
[2374]:- ينظر: معاني القرآن للفراء 1/103.
[2375]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/331) عن قتادة، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/309).
[2376]:- أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/332) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/309) وزاد نسبته لسفيان ابن عيينة وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي نعيم في "الحلية".
[2377]:-ينظر: القرطبي 2/159.
[2378]:- ينظر: تفسير القرطبي 2/159.
[2379]:- ينظر: معاني القرآن للأخفش 1/155.
[2380]:- سقط في ب.
[2381]:- ينظر: الإملاء لأبي البقاء 1/77.