{ قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر } والولد في العادة لا يكون إلا من مس البشر ، وهذا استغراب منها ، لا شك في قدرة الله تعالى : { قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة ، خلقه من يقول لكل أمر أراده : كن فيكون ، فمن تيقن ذلك زال عنه الاستغراب والتعجب ، ومن حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من الغريب إلى ما هو أغرب منه ، فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير والآخر عاقر ، ثم ذكر أغرب من ذلك وأعجب ، وهو وجود عيسى عليه السلام من أم بلا أب ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشَأْ لم يكن .
لقد حكى القرآن أن موقفها كان يدل على بالغ عجبها ، وشدة تأثرها فقال - تعالى - { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } .
أى : قالت مريم على سبيل التعجب والاستغراب : يا رب كيف يكون لى ولد والحال أني لم يمسسنى بشر ، أى لست بذات زوج ، ولم يحصل منى قط ما يكون بين الرجل والمرأة مما يسبب عنه وجود الولد .
والجملة الكريمة مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فماذا كان منها بعد أن قالت لها الملائكة ذلك ؟ فكان الجواب : { قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ } . . . الخ .
وصدرت إجابتها بالنداء لله - تعالى - للإشعار بكمال تسليمها للقدرة الإلهة وأن استغرابها وتعجبها إنما هو من الكيفية لا إنكارا لقدرة الله - تعالى - وجملة { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } حالية محققة لما مر ومقوية له .
والمسيس يحتمل أن يكون كناية عن المباشرة التي تقع بين الرجل والمرأة ولاتي يترتب عليها وجود النسل غذا شاء الله ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد به حقيقته وهو أنها لم يلمسها رجل ، لأنها كانت معتكفة في بيت الله ومنصرفة لعبادته ، ولم يلمس جسمها رجل من غير محارمها قط . وبذلك ينتفى بالأولى ما هو أبلغ من مجرد اللمس ، فموضع عجبها واستنكارها إنما هو وجود ولد منها مع أنها لم يمسسها بشر .
وهنا يحكى القرىن أن الله - تعالى - قد أزال عجبها واستنكارها بقوله : { قَالَ كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } .
أى قال الله - تعالى - لها بلا واسطة أو بواسطة ملائكته : كهذا الخلق الذى تجدينه ، بأن يكون لك ولد من غير أن يمسسك بشر وهو إبداع ، يخلق الله - تعالى - ويبدع ما يشاء ويريد إبداعه لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه .
وبعضهم يجعل الوقوف على " كذلك " فتكون خبرا لمبتدأ محذوف أى قال - سبحانه - فى إجابته على مريم : الأمر كذلك أى يأتى الولد منك على الحالة التى أنت عليها لأن الله - تعالى - يخلق ما يشاء أن يخلقه بدون احتياج إلى وجود الأسباب والمسببات لنه هو خالقه وخالق كل شيء ، ولا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء .
وصرح ههنا بقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ولم يقل " يفعل " كما في قصة زكريا ، لما أن ولادة العذراء من غير أن يمسسها بشر أبدع وأغرب من ولادة عجوز عاقر من شيخ كبير ، فكان الخلق المنبىء عن الاختراع أنسب بهذا المقام من مطلق الفعل .
ثم أكد - سبحانه - عظيم قدرته ونفاذ إرادته بقوله : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } .
وقضى هنا بمعنى أراد ، أى إذا اراد - سبحانه - شيئاً ، فإنما يقول لهذا الشيء كن فيكون من غير تأخر ومن غير وجود أسباب ، فهو كقوله - تعالى - { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } أى إنما نأمره مرة واحدة لا تثنية فيها فيكون ذلك الشىء سريعا كلمح البصر .
قال الألوسى : وقوله { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } هذا عند الأكثرين تمثيل لتأثير قدرته في مراده بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور من غير امتناع وتوقف وافتقار إلى مزاولة عمل واستعمال آلة ، فالممثل الشيء المكون بسرعة من غير عمل وآلة ، والممثل به أمر الآمر المطاع - المأمور المطيع على الفور ، وهذا اللفظ مستعار لذلك منه .
وأنت تعلم أنه يجوز فيه أن يكون حقيقة ، بأن يراد تعلق الكلام النفسى بالشيء الحادث على أن كيفية الخلق على هذا الوجه .
وعلى كلا التقديرين فالمراد من هذا الجواب بيان أن الله - تعالى - لا يعجزه أن يخلق ولدا من غير أب ، لأنه أمر ممكن في نفسه فيصح أن يكون متعلق الإرادة والقدرة .
وبذلك تكون الآيات الكريمة قد حكت لنا بعض البشارات التي بشرت بها الملائكة مريم وبعض الصفات التي وصف الله - تعالى - بها عيسى ، وبينت جانباً من مظاهر قدرة الله - تعالى - ونفاذ إرادته ، وفى ذلك ما فيه من العظات والعبر لأولى الألباب .
فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك ، عن الله ، عز وجل ، قالت في مناجاتها : { رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ولا من عزمي أن أتزوج ، ولست بَغيا ؟ حاشا لله . فقال لها الملك - عن الله ، عز وجل ، في جواب هذا السؤال - : { كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : هكذا أمْرُ الله عظيم ، لا يعجزه شيء . وصرح هاهنا بقوله : { يَخْلُقُ } ولم يقل : " يفعل " كما في قصة زكريا ، بل نص هاهنا على أنه يخلق ؛ لئلا يبقى شبهة ، وأكد ذلك بقوله : { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي : فلا يتأخر{[5047]} شيئًا ، بل يوجد عقيب{[5048]} الأمر بلا مهلة ، كقوله تعالى : { وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] أي : إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها ، فيكون ذلك الشيء سريعًا كلمح بالبصر{[5049]} .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.