فهذه كلها آيات بينات وأدلة واضحات على صدق هذا القرآن العظيم وصحة ما اشتمل عليه من الحكم والأحكام ، ودالات أيضا على ما لله تعالى من الكمال وعلى البعث والنشور .
ثم قسم تعالى الناس بالنسبة إلى الانتفاع بآياته وعدمه إلى قسمين :
قسم يستدلون بها ويتفكرون بها وينتفعون فيرتفعون وهم المؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إيمانا تاما وصل بهم إلى درجة اليقين ، فزكى منهم العقول وازدادت به معارفهم وألبابهم وعلومهم .
وبعد أن ذكر - سبحانه - هذه الآدلة الكونية الساطعة التي تحمل الناس على إخلاص العبادة له وحده ، أتبع ذلك بتهديد الذين عموا عنها ، والذين اتخذوا آيات الله هزوا . . فقال - تعالى - : { تَلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا . . . عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } .
والمراد بالآيات فى قوله - سبحانه - : { تَلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق . . } آيات القرآن الكريم ، كما فى قوله - تعالى - : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } و { تلْكَ } مبتدأ ، و { آيَاتُ الله } خبر ، و { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } حال عاملها ما دل عليه { تلْكَ } من معنى الإِشارة .
وقوله { بالحق } حال من فاعل { نَتْلُوهَا } أو من مفعوله ، أي : نتلوها محقين ، أو ملتبسة بالحق .
أي : تلك - أيها الرسول الكريم - آيات الله - تعالى - المنزلة إليك ، نتولها عليك تلاوة ملتبسة بالحق لا يحوم حولها باطل .
وكانت الإِشارة للبعيد ، لما في ذلك من معنى الاستقصاء للآيات ، ولعلو شأنها ، وكمال معانيها ، والوفاء في مقاصدها .
وأضاف - سبحانه - الآيات إليه ، لأنه هو الذي أنزلها على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وفي هذه الإِضافة ما فيها من التشريف لها ، والسمو لمنزلتها .
وجعل - سبحانه - تلاوة جبريل للقرآن تلاوة له ، للإِشعار بشرف جبريل ، وأنه ما خرج في تلاوة عما أمره الله - تعالى - به ، فهو رسوله الأمين ، إلى رسله المكرمين .
وقوله - سبحانه - : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } تعجيب من حالهم ، حيث أصر هؤلاء الكافرون على كفرهم ، مع وضوح البراهين والأدلة على بطلان ذلك .
أي : فبأي حديث بعد آيات الله المتلوة عليك يؤمن هؤلاء الجاهلون ؟ إن عدم إيمانهم بعد ظهور الأدلة والبراهين على وجوب الإِيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، دليل على انطماس بصائرهم ، واستيلاء العناد والجحود على قلوبهم .
قال الآلوسي : وقوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } هو من باب قولهم : أعجبني زيد وكرمه ، يريدون أعجبني كرم زيد ، إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الإِعجاب .
أي : فبأي حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون ، وفيه دلالة على أنه لا بيان أزيد من هذا البيان ، ولا آية أدل من الآية .
وقال الواحدي : فبأي حديث بعد حديث الله ، أي : القرآن ، وقد جاء إطلاقه عليه في قوله - تعالى - : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث . . } وحسن الإِضمار لقرينة تقدم الحديث .
وقوله { وَآيَاتِهِ } عطف عليه لتغايرههما إجمالا وتفصيلا . . والفاء فى جواب شرط مقدر ، والظرف صفة { حَدِيثٍ } .
هذه بعض آيات الله الكونية ، يشير إليها هذه الإشارات الموحية للمؤمنين . الذين يوقنون والذين يعقلون . يشير إليها بآيات الله القرآنية ، فتلمس القلوب ، وتوقظ العقول ، وتخاطب الفطر بلغتها المباشرة ، بما بينها وبين هذا الكون من صلة عميقة باطنة ، لا يحتاج إيقاظها إلا إلى كلمات موحية كآيات هذا القرآن . فمن لم يؤمن بهذه الآيات فلا رجاء في أن يؤمن بسواها ؛ ومن لم توقظه هذه الإشارات الموحية فلن توقظه الصرخات من غير هذا الصوت المستجاب :
( تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ? ) . .
إن أي كلام لن يبلغ كلام الله في القرآن . وإن أي إبداع لن يبلغ إبداع الله في الكون . وإن أية حقيقة لن تبلغ حقيقة الله في الثبوت والوضوح واليقين . ( فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ? ) . .
وهنا لا يليق بمن لا يؤمن إلا التهديد والتنكيل :
( ويل لكل أفاك أثيم . يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبراً كأن لم يسمعها . فبشره بعذاب أليم . وإذا علم من آياتنا شيئاً اتخذها هزواً ، أولئك لهم عذاب مهين . من ورائهم جهنم ، ولا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء ، ولهم عذاب عظيم . . )
وتصور هذه الآيات - كما أسلفنا في تقديم السورة - جانباً من استقبال المشركين لهذه الدعوة في مكة ، وإصرارهم على باطلهم ، واستكبارهم عن سماع كلمة الحق البين ، ومكابرتهم في هذا الحق كأنه لم يطرق
أذهانهم ، وسوء أدبهم مع الله وكلامه . . ومقابلة القرآن لهذا كله بالترذيل والتقبيح والتهديد والوعيد ، والتلويح بالعذاب الأليم المهين العظيم .
يجوز أن تكون الإشارة وبيانها بآيات الله إشارة إلى الآيات المذكورة في قوله { لآيات للمؤمنين } [ الجاثية : 3 ] وقوله : { آيات لقوم يوقنون } [ الجاثية : 4 ] وقوله : { آيات لقوم يعقلون } [ الجاثية : 5 ] .
وإضافتها إلى اسم الجلالة لأن خالقها على تلك الصفات التي كانت لها آيات للمستنصرين .
وجملة { نتلوها عليك بالحق } في موضع الحال من { آيات الله } والعامل في اسم الإشارة من معنى الفعل على نحو قوله تعالى : { وهذا بَعْلِي شيخاً } [ هود : 72 ] .
والتلاوة : القراءة . ومعنى كون الآيات مَتلوة أنّ في ألفاظ القرآن المتلوة دلالة عليها فاستعمال فعل ( نتلو ) مجاز عقلي لأن المتلوَ ما يدل عليها .
ويجوز أن تكون الإشارة إلى حاضر في الذهن غير مذكور لما دَل عليه قوله : { الكتاب } [ الجاثية : 2 ] أي تلك آيات الله المنزلة في القرآن ، فيكون استعمال فعل { نتلوها } في حقيقته .
وإسناد التلاوةِ إلى الله مجاز عقلي أيضاً لأن الله موجد القرآن المتلو الدال على تلك الآيات .
وقوله : { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون } ، و { بعد } هنا بمعنى ( دون ) . فالمعنى : فبأي حديث دون الله وآياته ، وتقدم قوله تعالى : { ومن يضلل الله فما له من ولي من بعده } في سورة الشورى ( 44 ) ، وفي الأعراف ( 185 ) { فبأي حديث بعده يؤمنون } والاستفهام في قوله : { فبأي حديث } مستعمل في التأييس والتعجيب كقول الأعشى :
فمن أيِّ ما تأتي الحوادث أفرَقُ
وإضافة { بعد } إلى اسم الجلالة على تقدير مضاف دل عليه ما تقدم من قوله : { فبأي حديث } ، والتقدير : بعد حديث الله ، أي بعد سماعه ، كقول النابِغة :
قد خفت حتى ما تزيد مخافتي *** على وعل في ذي المطارة عاقل
واسم { بعد } مستعمل في حقيقته .
والمراد بالحديث : الكلام ، يعني القرآن كقوله : { الله نَزَّل أحسن الحديث } [ الزمر : 23 ] وكما وقع إضافة حديث إلى ضمير القرآن في قوله في الأعراف ( 185 ) { فبأيّ حديث بعده يؤمنون } وفي آخر المرسلات ( 50 ) { فبأيّ حديث بعده يؤمنون } وعطف و { آياته } على { حديث } لأن المراد بها الآيات غير القرآن من دلائل السموات والأرض مما تقدم في قوله : { إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين } [ الجاثية : 3 ] .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو جعفر وروح عن يعقوب { يؤمنون } بالتحتية . وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ورويس عن يعقوب بالتاء الفوقية فهو التفات .