قوله تعالى : { فناداها من تحتها } ، قرأ أبو جعفر ، ونافع ، و حمزة ، والكسائي ، وحفص : { من تحتها } بكسر الميم والتاء ، يعني جبريل عليه السلام ، وكانت مريم على أكمة ، وجبريل وراء الأكمة تحتها فناداها . وقرأ الآخرون بفتح الميم والتاء ، وأراد جبريل عليه السلام أيضا ، ناداها من سفح الجبل . وقيل : هو عيسى لما خرج من بطن أمه ناداها : { أن لا تحزني } ، وهو قول مجاهد و الحسن . والأول قول ابن عباس رضي الله عنهما ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وجماعة : أن المنادي كان جبريل لما سمع كلامها وعرف جزعها ناداها ألا تحزني . { قد جعل ربك تحتك سرياً } ، والسري : النهر الصغير . وقيل : تحتك أي جعله الله تحت أمرك إن أمرتيه أن يجري جرى ، وإن أمرتيه بالإمساك أمسك . قال : ابن عباس رضي الله عنهما : ضرب جبريل عليه السلام - ويقال : ضرب عيسى عليه الصلاة والسلام - برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى . وقيل : كان هناك نهر يابس أجرى الله سبحانه تعالى فيه الماء وحييت النخلة اليابسة ، فأورقت وأثمرت وأرطبت . وقال الحسن : تحتك سرياً يعني : عيسى ، وكان والله عبداً سرياً ، يعني : رفيعاً .
وهذا التمني بناء على ذلك المزعج ، وليس في هذه الأمنية خير لها ولا مصلحة ، وإنما الخير والمصلحة بتقدير ما حصل .
فحينئذ سكن الملك روعها وثبت جأشها وناداها من تحتها ، لعله في مكان أنزل من مكانها ، وقال لها : لا تحزني ، أي : لا تجزعي ولا تهتمي ، ف { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ْ } أي : نهرا تشربين منه .
ثم ذكر - سبحانه - جانباً من إكرامه لمريم فى تلك الساعات العصيبة من حياتها فقال : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِي واشربي وَقَرِّي عَيْناً . . } .
والذى ناداها يرى بعضهم أنه جبريل - عليه السلام - . وقوله { مِن تَحْتِهَآ } فيه قراءتان سبعيتان : إحداهما : بكسر الميم فى لفظ { مِن } على أنه حرف جر ، وخفض تاء { تَحْتِهَآ } على أنه مجرور بحرف الجر والفاعل محذوف أى : فناداها جبريل من مكان تحتها ، أى أسفل منها . . .
والثانية بفتح فى لفظ { مَن } على أنه اسم موصول ، فاعل نادى وبفتح التاء فى { تَحْتَهَآ } على الظرفية ، أى : فنادها الذى هو تحتها ، وهو جبريل - عليه السلام - .
قال القرطبى : قوله - تعالى - { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } .
قال ابن عباس : المراد بمن تحتها جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها . . . ففى هذا لها آية وأمارة أن هذا من الأمور الخارقة للعادة ، التى لله - تعالى - فيها مراد عظيم " .
ويرى بعض المفسرين أن المنادى هو عيسى - عليه السلام - فيكون المعنى : فناداها ابنها عيسى الذى كان عندما وضعته موجوداً تحتها .
وقد رجح الإمام ابن جرير هذا الرأى فقال : " وأولى القولين فى ذلك عندنا قول من قال : الذى ناداها ابنها عيسى ، وذلك أنه من كناية - أى ضمير - ذكره أقرب منه من ذكر جبريل ، فرده على الذى هو أقرب إليه أولى من رده على الذى هو أبعد منه ، ألا ترى أنه فى سياق قوله - تعالى - { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً .
. } ثم قيل : فناداها نسقا على ذلك ، ولعلة أخرى وهى قوله : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ . . } ولم تشر إليه - إن شاء الله - إلا وقد علمت أنه ناطق فى حاله تلك . . . " .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير من كون الذى نادى مريم هو ابنها عيسى ، أقرب إلى الصواب ، لأن هذا النداء منه لها فى تلك الساعة ، فيه ما فيه من إدخال الطمأنينة والسكينة على قلبها .
أى : فناداها ابنها عيسى الذى كان أسفل منها عندما وضعته . مطمئناً إياها بعد أن قالت : يا ليتنى مت قبل هذا الذى حدث لى . . . ناداها بقوله : { أَلاَّ تَحْزَنِي } يا أماه { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } أى جدولاً صغيراً من الماء ، لتأخذى منه ما أنت فى حاجة إليه ، وسمى النهر الصغير من الماء سريا ، لأن الماء يسرى فيه .
وقيل : المراد بالسرى : عيسى - عليه السلام - مأخوذ من السَّرْو بمعنى الرفعة والشرف .
يقال : سَرُوَ الرجل يسرو - كشرف يشرف - فهو سَرِىّ ، إذا علا قدره وعظم أمره ومنه قول الشاعر :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم . . . ولا سراة إلا جهالهم سادوا
أى : قد جعل ربك تحتك يا مريم إنسانا رفيع القدر ، وهو ابنك عيسى ، والجلمة الكريمة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهى بقوله : { أَلاَّ تَحْزَنِي } قال بعض العلماء ما ملخصه : " وأظهر القولين عندى أن السرى فى الآية النهر الصغير لأمرين :
أحدهما : القرينة من القرآن ، لأن قوله بعد ذلك { فَكُلِي واشربي } قرينة على أن ذلك المأكول والمشروب هو ما تقدم الامتنان به فى قوله : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } .
الثانى : ما جاء عن ابن عمر من أنه سمع النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن السرى الذى قال الله لمريم : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } نهر أخرجه الله لها لتشرب منه " .
فهذا الحديث - وإن كانت طرقه لا يخلو شىء منها من ضعف - أقرب إلى الصواب من دعوى أن السرى عيسى بغير دليل يجب الرجوع إليه " .
وفي حدة الألم وغمرة الهول تقع المفاجأة الكبرى :
( فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا . وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا . فكلي واشربي وقري عينا ، فإما ترين من البشر أحدا فقولي : إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ) .
يالله ! طفل ولد اللحظة يناديها من تحتها . يطمئن قلبها ويصلها بربها ، ويرشدها إلى طعامها وشرابها . ويدلها على حجتها وبرهانها !
لا تحزني . . ( قد جعل ربك تحتك سريا )فلم ينسك ولم يتركك ، بل أجرى لك تحت قدميك جدولا ساريا - الأرجح أنه جرى للحظته من ينبوع أو تدفق من مسيل ماء في الجبل –
{ فناداها من تحتها } عيسى ، وقيل جبريل كان يقبل الولد ، وقيل تحتها أسفل من مكانها . وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص وروح " من تحتها " بالكسر والجر على أن في نادى ضمير أحدهما ، وقيل الضمير في تحتها النخلة . { ألا تحزني } أي لا تحزني أو بأن لا تحزني . { قد جعل ربك تحتك سريا } جدولا . هكذا روي مرفوعا ، وقيل سيدا من السرو وهو عيسى عليه الصلاة والسلام .
ضمير الرفع المستتر في ( ناداها ) عائد إلى ما عاد عليه الضمير الغائب في { فحملته } [ مريم : 22 ] ، أي : ناداها المولود .
قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وأبو جعفر ، وخلف ، وروح عن يعقوب { مِنْ تَحتها } بكسر ميم ( من ) على أنها حرف ابتداء متعلّق ب ( ناداها ) وبجر { تَحتها } .
وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وأبو بكر عن عاصم ، ورويس عن يعقوب { مَنْ } بفتح الميم على أنها اسم موصول ، وفتح { تَحْتَهَا } على أنه ظرف جعل صلة ، والمعني بالموصول هو الغلام الذي تحتها . وهذا إرهاص لعيسى وكرامة لأمّه عليهما السلام .
وقَيْدُ { من تحتها } لتحقيق ذلك ، ولإفادة أنه ناداها عند وضعه قبل أن ترفعه مبادرة للتسلية والبشارة وتصويراً لتلك الحالة التي هي حالة تمام اتّصال الصبي بأمه .
و { أنَّ من قوله ألاَّ تَحْزَني } تفسيرية لفعل ( ناداها ) .
وجملة { قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تحتك سَرِيّاً } خبر مراد به التعليل لجملة { ألاَّ تحزني } ، أي أن حالتك حالة جديرة بالمسرة دون الحزن لما فيها من الكرامة الإلهية .
السرّي : الجدول من الماء كالساقية ، كثير الماء الجاري .
وهبَها الله طعاماً طيّباً وشراباً طيّباً كرامة لها يشهدها كل من يراها ، وكان معها خطيبها يوسف النجار ، ومن عسى أن يشهدها فيكون شاهداً بعصمتها وبراءتها مما يظن بها . فأما الماء فلأنه لم يكن الشأن أن تأوي إلى مجرى ماء لتضع عنده . وأما الرُطب فقيل كان الوقت شتاء ، ولم يكن إبان رطب وكان جذع النخلة جذع نخلة ميتة فسقوط الرطب منها خارق للعادة . وإنما أعطيت رُطباً دون التمر لأنّ الرطب أشهى للنفس إذ هو كالفاكهة وأما التمر فغذاء .