الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا} (24)

قوله : { مِن تَحْتِهَآ } : قرأ الأخَوَان ونافع وحفص بكسر ميم " مِنْ " ، وجَرَّ " تحتِها " على الجار والمجرور . والباقون بفتحها ونصب " تحتَها " . فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكونَ الفاعلُ في " نادَى " مضمراً وفيه تأويلان ، أحدهما : هو جبريل ومعنى كونِه { مِن تَحْتِهَآ } أنه في مكانٍ أسفلَ منها . ويَدُل على ذلك قراءةُ ابنِ عباس " فناداها مَلَكٌ مِنْ تحتها : فَصَرَّح به . و { مِن تَحْتِهَآ } على هذا فيه وجهان أحدهما : أنه متعلقٌ بالنداء ، أي : جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ . والثاني : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : فناداها وهو تحتَها .

وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى ، أي : فناداها المولودُ مِنْ تحت ذَيْلها . والجارُّ فيه الوجهان : مِنْ كونِه متعلِّقاً بالنداء ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ . والثاني أوضح .

والقراءةُ الثانية : تكون فيها " مَنْ " موصولةً ، والظرفُ صلتُها ، والمرادُ بالموصولِ : إمَّا جبريلُ ، وإمَّا عيسى .

قوله : { أَلاَّ تَحْزَنِي } يجوزُ في " أَنْ " أَنْ تكونَ مفسرةً لتقدُّمِها ما هو بمعنى القول ، و " لا " على هذا ناهيةٌ ، وحَذْفُ النونِ للجزم ؛ وأَنْ تكونَ الناصبةَ و " لا " حينئذٍ نافيةٌ ، وحَذْفُ النونِ للنصبِ . ومَحَلُّ " أنْ " : إمَّا نصب أو جرٌّ لأنها على حَذْفِ حرفِ الجر ، أي : فناداها بكذا . والضمير في " تحتها " : إمَّا لمريمَ عليها السلام ، وإمَّا للنخلةِ ، والأولُ أَوْلَى لتوافُقِ الضميرين .

قوله : " سَرِيَّا " يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً أولَ ، و " تحتك " مفعولٌ ثان لأنها بمعنى صَيَّر . ويجوز أن تكون بمعنى خَلَق ، فتكون " تحتك " لغواً .

والسَّرِيُّ فيه قولان ، أحدهما : أنه الرجلُ المرتفعُ القَدْرِ ، مِنْ سَرُوَ يَسْرُو كشَرُف يَشْرُف ، فهو سَرِيٌّ . وأصله سَرِيْوٌ ، فأُعِلَّ إعلالَ سَيِّد ، فلامُه واوٌ . والمرادُ به في الآية عيسى بن مريم عليه السلام ، ويُجْمع " سَرِيُّ " على " سَراة " بفتح السين ، وسُرَواء كظُرَفاء ، وهما جمعان شاذَّان ، بل قياسُ جَمْعِه " أَسْرِياء " ، كغنِيِّ وأَغْنِياء . وقيل : السَّرِيُّ : مِنْ سَرَوْتُ الثوبَ ، أي : نَزَعْتُه ، وسَرَوْتُ الجُلَّ عن الفَرَس ، أي : نَزَعْتُه . كأنَّ السَّرِيَّ سَرَى ثوبَه ، بخلاف المُدَّثِّر والمُتَزَمِّل . قاله الراغب .

والثاني : أنه النهرُ الصغير ، ويناسِبُه " فكُلي واشربي " واشتقاقه مِنْ سَرَى يَسْرِي ، لأن الماءَ يَسْري فيه ، فلامُه على هذا ياء ، وأنشدوا للبيد :

فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ فَصَدَّعا *** مَسْجورةً مُتَجاوِزاً قُلاَّمُها