اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَآ أَلَّا تَحۡزَنِي قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِيّٗا} (24)

قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } : قرأ{[21523]} الأخوان ، ونافع ، وحفص بكسر ميم " مِنْ " وجرِّ " تحتها " على الجار والمجرور ، والباقون بفتحها ، ونصب " تحتها " فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في " نَادَى " مَكراً ، وفيه تأويلان :

أحدهما : هو جبريلُ ، ومعنى كونه " مِنْ تحتها " ، أنه في مكانٍ أسفل منها ؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ{[21524]} ابن عبَّاس " فناداها ملكٌ من تحتها " فصرَّح به .

ومعنى كونه أسفل منها : إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ ، وهناك مبدأ معيَّنٌ ، وهو عند النَّخْلة ، وجبريلُ بعيدٌ عنها ، فكل من كان أقرب ، كان فوق ، وكُلُّ من كان أبعد ، كان تحت ، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } [ الأحزاب : 10 ] .

ولهذا قال بعضهم : ناداها من أقصى الوادي .

وقيل : كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ ، وجبريل أسفل ؛ قاله عكرمة .

ورُوِيَ عن عكرمة : أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة{[21525]} .

و " مِنْ تَحْتهَا " على هذا فيه وجهان :

أحدهما : أنه متعلِّق بالنداء ، أي : جاء النداء من هذه الجهة .

والثاني : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : فناداها ، وهو تحتها .

وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى ، أي : فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها ، والجارُّ فيه الوجهان : من كونه متعلَّقاً بالنداء ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، والثاني أوضحُ .

والقراءة الثانية : تكونُ فيها " مَنْ " موصولةً ، والظرفُ صلتها ، والمرادُ بالموصول : إمَّا جبريلُ ، وإمَّا عيسى .

وقرأ زئرٌّ ، وعلقمةُ : " فَخَاطَبَهَا " مكان " فَنَادَاها " .

فصل في اختلافهم في المنادي

قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ : إنَّ المنادي هو عيسى -صلوات الله عليه{[21526]}- وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ ، وقتادةُ ، والضحاكُ ، وجماعةٌ : إنَّه جبريل -صلوات الله عليه{[21527]}- وكانت مريمُ على أكمة [ وجبريل ]{[21528]} وراء الأكمةِ تحتها .

وقال ابن عيينة ، وعاصمٌ : المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى ، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ :

الأول : أن قوله : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً ، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى -صلوات الله عليه- فوجب حملُ اللفظ عليه ، وأما قراءة كسر الميم ، فلا تقتضي كون المنادي " جبريل " صلواتُ الله عليه .

الثاني : أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة ، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ .

الثالث : أن قوله { فَنَادَاهَا } فعلٌ ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره ، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل ، وعيسى -صلوات الله عليهما- ، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ ؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت } والضمير عائدٌ إلى المسيح ، فكان حمله عليه أولى .

الرابع : أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لو لم يكُن كلَّمها ، لما علمتْ أنه ينطقُ ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام .

فصل في معنى الآية على القولين

من قال : المُنادِي : هو عيسى ، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أنطقه لها حين وضعتهُ تطبيباً لقلبها ، وإزالةً للوحشة عنها ؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشّرها به جبريل -صلوات الله عليه- من عُلُوِّ شأن ذلك الولد .

ومن قال : المنادي هو جبريلُ -صلوات الله عليه- قال : إنه أرسل إليها ؛ ليناديها بهذه الكلمات ؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر ؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة .

قوله : { ألاَّ تَحْزَنِي } يجوز في " أنْ " أن تكون مفسرةً ؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول ، و " لا " على هذا : ناهيةٌ ، حذف النون للجزم ؛ وأن تكون الناصبة ، و " لا " حينئذٍ نافيةٌ ، وحذفُ النُّون للنَّصْب ، ومحلُّ " أنْ " إمَّا نصب ، أو جرٌّ ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ ، أي : فَنَادَاهَا بكذا ، والضميرُ في " تحتها " : إمَّا لمريم -صلوات الله عليها- وإمَّا للنَّخلة ، والأول أولى ؛ لتوافق الضميرين .

قوله تعالى : [ { سَرِيًّا } ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل ، و " تَحْتك " مفعولٌ ثان ؛ لأنها بمعنى صيَّر " ويجوز أن تكون بمعنى " خلق " فتكون " تَحْتَكِ " لغواً .

والسَّرِيُّ : فيه قولان :

أحدهما : إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر ، من " سَرُوَ يَسْرُو " ك " شَرُفَ ، يَشْرَفُ " فهو سريٌّ ، وأصله سَرِيوٌ ؛ فأعلَّ سيِّدٍ ، فلامهُ واوٌ ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم -صلوات الله عيله- ، ويجمعُ " سريٌّ " على " سراة " بفتح السين ، وسُرَواء ؛ كظرفاء ، وهما جمعان شاذَّان ، بل قياسُ جمعه " أسْرِيَاء " كغَنِيِّ ، وأغنياء ، وقيل : السَّرِيُّ : من " سَرَوْتُ الثَّوبَ " أي : نزعتهُ ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس ، أي : نزعتهُ ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه ؛ بخلاف المُدَّثِّر ، والمُتزمِّل ، قاله الراغب{[21529]} .

والثاني : أنه النَّهْر الصغير ، ويناسبه " فكُلِي واشْرَبِي " واستقاقه من " سَرَى ، يَسْرِي " لأن الماء يَسْري فيه ، فلامه عهدى هذا ياء ؛ وأنشدوا للبيدٍ : [ الرجز ]

فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا *** مَسْجُورةً مُتَجَاوِزاً قُلاَّمُهَا{[21530]}

فصل

قال الحسن ، وابن زيدٍ : السَّريُّ هو عيسى ، والسَّريُّ : هو النَّبيلُ الجليلُ{[21531]} .

يقال : فلانٌ من سرواتِ قومه ، أي : من أشرافهم ، وروي أن الحسن رجع عنه .

وروي عن قتادة وغيره : أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيْد بن عبد الرَّحمن الحَميريُّ -رضي الله عنه- : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } .

فقال : إن كان لسربًّا ، وإن كان لكريماً ، فقال له حميدٌ : يا أبا سعيد ، إنما هو الجدول ، فقال له الحسنُ " مِنْ ثمَّ [ تُعْجِبُنِي مُجَالستُكَ " {[21532]} ]{[21533]} .

واحتجَّ من قال : هو النَّهر " بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن السَّريِّ ، فقال -صلوات الله عليه وسلامه{[21534]}- هو الجدولُ " وبقوله سبحانه وتعالى : { فَكُلِي واشربي } فدلَّ على أنَّه على أنَّه النَّهر ؛ حتى ينضاف الماءُ إلى الرُّطب ، فتأكل وتشرب .

واحتجَّ من قال : إنَّه عيسى بأنَّ النهر لا يكون تحتها ، بل إلى جنبها ، ولا يجوزُ أن يكون يُجابُ عنه بأن المراد أنَّه جعل النَّهر تحت أمرها يجري بأمرها ، ويقف بأمرها ؛ لقوله : { وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا } [ الزخرف : 51 ] لأنَّ هذا حمل اللفظ على مجازه ، ولو حملناه على عيسى ، لم يحتج إلى هذا المجاز .

وأيضاً : فإنَّه موافقٌ لقوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] .

وأجيب{[21535]} : بما تقدَّم أن المكان المستوي ، إذا كان فيه مبدأٌ معيَّنٌ ، فكلُّ من كان أقرب منه ، كان فوق ، وكل من كان أبعد منه ، كان تحت .

فصل في التفريع على القول بأن السريّ النهر

إذا قيل : إنَّ السَّرِيَّ : هو النَّهْر ، ففيه وجهان :

الأول : قال ابنُ عبَّاس -رضي الله عنهما- : إنَّ جبرائيل -صلواتُ الله عليه وسلامه -ضرب برجله الأرض{[21536]} .

وقيل : عيسى ؛ فظهرت عينُ ماءٍ عذبٍ ، وجرى .

وقيل : كان هناك ماءٌ جارٍ ؛ والأول أقربُ ؛ لأن قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } يدلُّ على الحدوث في ذلك الوقت ؛ ولأنَّ الله تعالى ذكرهُ تعظيماً لشأنها ، وذلك لا يدلُّ إلا على الوجه الذي قلناه .

وقيل : كان هناك نهرٌ يابسٌ أجرى الله فيه الماء ، وحيث النخلة اليابسة ، فأورقتْ ، وأثمرتْ ، وأرطبتْ .

قال أبو عبيدة والفَّراء : السَّريُّ : هو النَّهْرُ مطلقاً .

وقال الأخفشُ : هو النَّهْرُ الصَّغير .


[21523]:ينظر: السبعة 408، والنشر 2/318، والتيسير 148، والحجة 441، والحجة للقراء السبعة 5/196، 197، وإعراب القراءات 2/16، والإتحاف 2/235.
[21524]:ينظر: البحر 6/173، والدر المصون 4/583.
[21525]:ينظر: الفخر الرازي 21/175.
[21526]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/482) عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[21527]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/482) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[21528]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/482) عن سعيد بن جبير وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وعن الحسن وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
[21529]:ينظر: المفردات 231.
[21530]:من معلقته، ينظر: ديوانه 170، شرح القصائد العشر 272، الطبري 16/54، البحر المحيط 6/162، القرطبي 11/64، روح المعاني 16/83، اللسان "سجر"، الدرالمصون 4/499.
[21531]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/330) عن الحسن وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/482) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.
[21532]:في ب: تعجبنا مجالسك.
[21533]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/483) وعزاه إلى عبد بن حميد.
[21534]:ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/57) عن البراء مرفوعا وعزاه إلى الطبراني في "الصغير" وقال: وفيه معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/483) وزاد نسبته إلى ابن مردويه. وفي الباب عن ابن عمر: ذكره الهيثمي في "المجمع" (7/57 – 58) وقال: رواه الطبراني وفيه يحيى ابن عبد الله البابلتي وهو ضعيف. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (4/483) وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن النجار.
[21535]:ينظر: الفخر الرازي 21/175.
[21536]:ذكره البغوي في "تفسيره" (4/193).