قوله تعالى : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } : قرأ{[21523]} الأخوان ، ونافع ، وحفص بكسر ميم " مِنْ " وجرِّ " تحتها " على الجار والمجرور ، والباقون بفتحها ، ونصب " تحتها " فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في " نَادَى " مَكراً ، وفيه تأويلان :
أحدهما : هو جبريلُ ، ومعنى كونه " مِنْ تحتها " ، أنه في مكانٍ أسفل منها ؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ{[21524]} ابن عبَّاس " فناداها ملكٌ من تحتها " فصرَّح به .
ومعنى كونه أسفل منها : إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ ، وهناك مبدأ معيَّنٌ ، وهو عند النَّخْلة ، وجبريلُ بعيدٌ عنها ، فكل من كان أقرب ، كان فوق ، وكُلُّ من كان أبعد ، كان تحت ، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } [ الأحزاب : 10 ] .
ولهذا قال بعضهم : ناداها من أقصى الوادي .
وقيل : كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ ، وجبريل أسفل ؛ قاله عكرمة .
ورُوِيَ عن عكرمة : أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة{[21525]} .
و " مِنْ تَحْتهَا " على هذا فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلِّق بالنداء ، أي : جاء النداء من هذه الجهة .
والثاني : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : فناداها ، وهو تحتها .
وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى ، أي : فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها ، والجارُّ فيه الوجهان : من كونه متعلَّقاً بالنداء ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، والثاني أوضحُ .
والقراءة الثانية : تكونُ فيها " مَنْ " موصولةً ، والظرفُ صلتها ، والمرادُ بالموصول : إمَّا جبريلُ ، وإمَّا عيسى .
وقرأ زئرٌّ ، وعلقمةُ : " فَخَاطَبَهَا " مكان " فَنَادَاها " .
قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ : إنَّ المنادي هو عيسى -صلوات الله عليه{[21526]}- وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ ، وقتادةُ ، والضحاكُ ، وجماعةٌ : إنَّه جبريل -صلوات الله عليه{[21527]}- وكانت مريمُ على أكمة [ وجبريل ]{[21528]} وراء الأكمةِ تحتها .
وقال ابن عيينة ، وعاصمٌ : المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى ، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ :
الأول : أن قوله : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً ، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى -صلوات الله عليه- فوجب حملُ اللفظ عليه ، وأما قراءة كسر الميم ، فلا تقتضي كون المنادي " جبريل " صلواتُ الله عليه .
الثاني : أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة ، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ .
الثالث : أن قوله { فَنَادَاهَا } فعلٌ ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره ، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل ، وعيسى -صلوات الله عليهما- ، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ ؛ لقوله عزَّ وجلَّ : { فَحَمَلَتْهُ فانتبذت } والضمير عائدٌ إلى المسيح ، فكان حمله عليه أولى .
الرابع : أنَّ عيسى -صلوات الله عليه- لو لم يكُن كلَّمها ، لما علمتْ أنه ينطقُ ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام .
من قال : المُنادِي : هو عيسى ، فالمعنى : أنَّ الله تعالى أنطقه لها حين وضعتهُ تطبيباً لقلبها ، وإزالةً للوحشة عنها ؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشّرها به جبريل -صلوات الله عليه- من عُلُوِّ شأن ذلك الولد .
ومن قال : المنادي هو جبريلُ -صلوات الله عليه- قال : إنه أرسل إليها ؛ ليناديها بهذه الكلمات ؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر ؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة .
قوله : { ألاَّ تَحْزَنِي } يجوز في " أنْ " أن تكون مفسرةً ؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول ، و " لا " على هذا : ناهيةٌ ، حذف النون للجزم ؛ وأن تكون الناصبة ، و " لا " حينئذٍ نافيةٌ ، وحذفُ النُّون للنَّصْب ، ومحلُّ " أنْ " إمَّا نصب ، أو جرٌّ ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ ، أي : فَنَادَاهَا بكذا ، والضميرُ في " تحتها " : إمَّا لمريم -صلوات الله عليها- وإمَّا للنَّخلة ، والأول أولى ؛ لتوافق الضميرين .
قوله تعالى : [ { سَرِيًّا } ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل ، و " تَحْتك " مفعولٌ ثان ؛ لأنها بمعنى صيَّر " ويجوز أن تكون بمعنى " خلق " فتكون " تَحْتَكِ " لغواً .
أحدهما : إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر ، من " سَرُوَ يَسْرُو " ك " شَرُفَ ، يَشْرَفُ " فهو سريٌّ ، وأصله سَرِيوٌ ؛ فأعلَّ سيِّدٍ ، فلامهُ واوٌ ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم -صلوات الله عيله- ، ويجمعُ " سريٌّ " على " سراة " بفتح السين ، وسُرَواء ؛ كظرفاء ، وهما جمعان شاذَّان ، بل قياسُ جمعه " أسْرِيَاء " كغَنِيِّ ، وأغنياء ، وقيل : السَّرِيُّ : من " سَرَوْتُ الثَّوبَ " أي : نزعتهُ ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس ، أي : نزعتهُ ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه ؛ بخلاف المُدَّثِّر ، والمُتزمِّل ، قاله الراغب{[21529]} .
والثاني : أنه النَّهْر الصغير ، ويناسبه " فكُلِي واشْرَبِي " واستقاقه من " سَرَى ، يَسْرِي " لأن الماء يَسْري فيه ، فلامه عهدى هذا ياء ؛ وأنشدوا للبيدٍ : [ الرجز ]
فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا *** مَسْجُورةً مُتَجَاوِزاً قُلاَّمُهَا{[21530]}
قال الحسن ، وابن زيدٍ : السَّريُّ هو عيسى ، والسَّريُّ : هو النَّبيلُ الجليلُ{[21531]} .
يقال : فلانٌ من سرواتِ قومه ، أي : من أشرافهم ، وروي أن الحسن رجع عنه .
وروي عن قتادة وغيره : أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيْد بن عبد الرَّحمن الحَميريُّ -رضي الله عنه- : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } .
فقال : إن كان لسربًّا ، وإن كان لكريماً ، فقال له حميدٌ : يا أبا سعيد ، إنما هو الجدول ، فقال له الحسنُ " مِنْ ثمَّ [ تُعْجِبُنِي مُجَالستُكَ " {[21532]} ]{[21533]} .
واحتجَّ من قال : هو النَّهر " بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن السَّريِّ ، فقال -صلوات الله عليه وسلامه{[21534]}- هو الجدولُ " وبقوله سبحانه وتعالى : { فَكُلِي واشربي } فدلَّ على أنَّه على أنَّه النَّهر ؛ حتى ينضاف الماءُ إلى الرُّطب ، فتأكل وتشرب .
واحتجَّ من قال : إنَّه عيسى بأنَّ النهر لا يكون تحتها ، بل إلى جنبها ، ولا يجوزُ أن يكون يُجابُ عنه بأن المراد أنَّه جعل النَّهر تحت أمرها يجري بأمرها ، ويقف بأمرها ؛ لقوله : { وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا } [ الزخرف : 51 ] لأنَّ هذا حمل اللفظ على مجازه ، ولو حملناه على عيسى ، لم يحتج إلى هذا المجاز .
وأيضاً : فإنَّه موافقٌ لقوله : { وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً } [ المؤمنون : 50 ] .
وأجيب{[21535]} : بما تقدَّم أن المكان المستوي ، إذا كان فيه مبدأٌ معيَّنٌ ، فكلُّ من كان أقرب منه ، كان فوق ، وكل من كان أبعد منه ، كان تحت .
فصل في التفريع على القول بأن السريّ النهر
إذا قيل : إنَّ السَّرِيَّ : هو النَّهْر ، ففيه وجهان :
الأول : قال ابنُ عبَّاس -رضي الله عنهما- : إنَّ جبرائيل -صلواتُ الله عليه وسلامه -ضرب برجله الأرض{[21536]} .
وقيل : عيسى ؛ فظهرت عينُ ماءٍ عذبٍ ، وجرى .
وقيل : كان هناك ماءٌ جارٍ ؛ والأول أقربُ ؛ لأن قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } يدلُّ على الحدوث في ذلك الوقت ؛ ولأنَّ الله تعالى ذكرهُ تعظيماً لشأنها ، وذلك لا يدلُّ إلا على الوجه الذي قلناه .
وقيل : كان هناك نهرٌ يابسٌ أجرى الله فيه الماء ، وحيث النخلة اليابسة ، فأورقتْ ، وأثمرتْ ، وأرطبتْ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.