{ 68 - 69 } { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر لها المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها ،وهدايته لها ، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ ، مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها ، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة . فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام لطفه بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه .
وقوله - سبحانه - : { وأوحى } من الوحي ، وهو هنا بمعنى الإِلهام ، وهو - كما يقول القرطبي - ما يخلقه الله - تعالى - في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر . ومنه قوله - تعالى - : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ، ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها ، وترك ما يضرها ، وتدبير معاشها . . .
وقال صاحب الكشاف : والإِيحاء إلى النحل : إلهامها والقذف في قلوبها على وجه هو أعلم به ، لا سبيل لأحد إلى الوقوف عليه ، وإلا فتأنقها فى صنعتها ولطفها في تدبير أمرها ، وإصابتها فيما يصلحها دلائل شاهدة على أن الله - تعالى - أودعها علما بذلك وفطنها ، كما أودع أولى العقول عقولهم . . .
والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، ويشمل كل من يصلح للخطاب من الأمة الإِسلامية .
والنحل : اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، ويطلق على الذكر والأنثى ، وسمي بذلك ؛ لأن الله - تعالى - نحله ، أي : منحه العسل الذى يخرج منه .
وقوله - سبحانه - : { أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } ، بيان لما ألهمه الله النحل من أوامر . ولما كلفها به من أعمال .
و " أن " مفسرة ؛ لأن الإِيحاء فيه معنى القول دون حروفه ، وما بعدها لا محل له من الإِعراب ، ويجوز بأن تكون مصدرية ، فيكون ما بعدها في محل نصب على تقدير الجار . أي : بأن اتخذي .
والمعنى : وألهم ربك النحل وأرشدها وهداها إلى أن تتخذ من فجوات الجبال بيوتا تسكن فيها ، وكذلك من تجاويف الأشجار ، ومما يرفعه الناس ويعرشونه من السقوف وغيرها .
يقال : عرش الشيء يعرشه - بكسر الراء وضمها - إذا رفعه عن الأرض ، ومنه العريش الذي صنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر لمشاهدة سير المعركة .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى " من " في قوله : { أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } ؟ وهلا قيل في الجبال ، وفي الشجر ؟ .
قلت : أريد معنى البعضية ، وأن لا تبني بيوتها في كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها .
وقد علق الشيخ ابن المنير على هذا الكلام بقوله : " ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه الزمخشري في تبعيض " من " المتعلقة باتخاذ البيوت بإطلاق الأكل ، كأنه - تعالى - وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها ، فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت ، وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض ؛ لأن مصلحة الأكل على الإِطلاق باستمرار مشتهاها منه ، وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع . ولهذا المعنى دخلت ثم في قوله : { ثم كلي . . . } ؛ لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإِطلاق لها في تناول الثمرات ، كما تقول : راع الحلال فيما تأكله ، ثم كل أي شيء شئت . فتوسط ثم لتفاوت الحجر والإِطلاق . فسبحان اللطيف الخبير " .
( وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ، ومن الشجرة ومما يعرشون ، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا ، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس . إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) . .
والنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق ، فهو لون من الوحي تعمل بمقتضاه . وهي تعمل بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر سواء في بناء خلاياها ، أو في تقسيم العمل بينها ، أو في طريقة إفرازها للعسل المصفى .
وهي تتخذ بيوتها - حسب فطرتها - في الجبال والشجر وما يعرشون أي ما يرفعون من الكروم وغيرها - وقد ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق .
{ وأوحى ربك إلى النحل } ، ألهمها وقذف في قلوبها ، وقرئ { إلى النحل } بفتحتين . { أن اتخذي } ، بأن اتخذي ، ويجوز أن تكون : { أن } مفسرة ؛ لأن في الإيحاء معنى القول ، وتأنيث الضمير على المعنى ، فإن النحل مذكر . { من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون } ، ذكر بحرف التبعيض ؛ لأنها لا تبني في كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش من كرم أو سقف ، ولا في كل مكان منها ، وإنما سمي ما تبنيه لتتعسل فيه بيتا ؛ تشبيها ببناء الإنسان ، لما فيه من حسن الصنعة ، وصحة القسمة التي لا يقوى عليها أحذق المهندسين ، إلا بآلات وأنظار دقيقة ، ولعل ذكره لتنبيه على ذلك ، وقرئ : { بيوتاً } ، بكسر الباء ، وقرأ ابن عامر وأبو بكر :{ يعرشون } ، بضم الراء .
وقوله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } الآية ، الوحي في كلام العرب : إلقاء المعنى من الموحي إلى الموحى إليه في خفاء ، فمنه : الوحي إلى الأنبياء برسالة الملك ، ومنه وحي الرؤيا ، ومنه وحي الإلهام ، وهو الذي في آياتنا هذه باتفاق من المتأولين ، والوحي أيضاً بمعنى : الأمر ، كما قال تعالى : { بأن ربك أوحى لها }{[7361]} [ الزلزلة : 5 ] . وقرأ يحيى بن وثاب : «إلى النّحَل » ، بفتح الحاء ، و { أن } في قوله : { أن اتخذي } مفسرة ، وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع ، إما في الجبال وكُواها ، وإما في متجوف الأشجار ، وإما فيما يعرش ابن آدم من الأجباح{[7362]} ، والحيطان ونحوها ، و «عرش » معناه :هيأ ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من إتقان الأغصان والخشب ، وترتيب ظلالها ، ومنه العريش الذي صيغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، ومن هذا هي لفظة العريش ، ويقال عرش يعرِش ، بكسر الراء وضمها ، وقرىء بهما ، قرأ ابن عامر بالضم ، وسائرهم بالكسر ، واختلف عن عاصم ، وجمهور الناس على كسر ، وقرأ بالضم : أبو عبد الرحمن ، وعبيد بن نضلة ، وقال ابن زيد في قوله : { يعرشون } ، قال الكروم ، وقال الطبري : { ومما يعرشون } ، يعني : ما يبنون من السقوف .