لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ} (68)

قوله سبحانه وتعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } ، لما ذكر الله سبحانه وتعالى دلائل قدرته ، وعجائب صنعته الدالة على وحدانيته ، من إخراج اللبن من بين فرث ودم ، وإخراج السكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، ذكر في هذه الآية : إخراج العسل الذي جعله شفاء للناس من دابة ضعيفة ، وهي : النحلة ، فقال سبحانه وتعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } ، الخطاب فيه للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد به : كل فرد من الناس ممن له عقل وتفكر ، يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته ، وأنه الخالق لجميع الأشياء ، المدبر لها بلطيف حكمته ، وقدرته ، وأصل الوحي : الإشارة السريعة ، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز ، والتعريض وقد يكون بصوت مجرد ، ويقال للكلمة الإلهية التي يلقيها الله إلى أنبيائه وحي ، وإلى أوليائه إلهام ، وتسخير الطير لما خلق له ، ومنه قوله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل } ، يعني : أنه سخرها لما خلقها له ، وألهمها رشدها ، وقدر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة ، التي يعجز عنها العقلاء من البشر ، وذلك أن النحل تبني بيوتاً على شكل مسدس ، من أضلاع متساوية لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ، ولو كانت البيوت مدورة أو مثلثة أو مربعة ، أو غير ذلك من الأشكال ، لكان فيما بينها خلل ، ولما حصل المقصود ، فألهمها الله سبحانه وتعالى ، أن تبنيها على هذا الشكل المسدس ، الذي لا يحصل فيه خلل وفرجة خالية ضائعة ، وألهمها الله تعالى أيضاً أن تجعل عليها أميراً كبيراً نافذ الحكم فيها ، وهي تطيعه وتمتثل أمره ، ويكون هذا الأمير أكبرها جثة ، وأعظمها خلقة ، ويسمى : يعسوب النحل ، يعني : ملكها ، كذا حكاه الجوهري ، وألهمها الله سبحانه وتعالى أيضاً : أنها تخرج من بيوتها ، فتدور وترعى ثم ترجع إلى بيوتها ، ولا تضل عنها . ولما امتار هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة ، الدالة على مزيد الذكاء والفطنة ، دل ذلك على الإلهام الإلهي ، فكان ذلك شبيهاً بالوحي ، فلذلك قال تبارك وتعالى : وأوحى ربك إلى النحل ، والنحل : زنبور العسل ، ويسمى الدبر أيضاً ، قال الزجاج : يجوز أن يقال : سمي هذا الحيوان نحلاً ؛ لأن الله سبحانه وتعالى ، نحل الناس العسل الذي يخرج من بطونها ، بمعنى : أعطاهم . وقال غيره : النحل يذكر ويؤنث ، وهي مؤنثة في لغة الحجاز ، وكذا أنثها الله تعالى فقال :{ أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون } ، يعني : يبنون ويثقفون ، وذلك أن النحل منه : وحشي ، وهو : الذي يسكن الجبال والشجر ويأوي إلى الكهوف ، ومنه : أهلي ، وهو : الذي يأوي إلى البيوت ، ويربيه الناس ، وقد جرت العادة أن الناس يبنون للنحل الأماكن حتى تأوي إليها ، وقال ابن زيد : أراد بالذي يعرشون : الكروم .