اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ} (68)

قوله تعالى { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } الآية ، لما بيَّن أن إخراج الألبان من النَّعم ، وإخراج السَّكر من ثمرات النَّخيل والأعناب : دلائلٌ قاهرة على أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً مختاراً حكيماً ، فكذلك إخراج العسل من النحل : دليلٌ قاطع على إثبات هذا المقصود .

اعلم أنه - تعالى - قال : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } ، يقال : وحَى وأوْحَى ، وهو هنا : الإلهام ، والمعنى : أنَّه - تعالى - قرَّر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة ، التي يعجز عنها العقلاء من البشر ، وبيانه من وجوه :

الأول : أنها تبني البيوت مسدَّسة من أضلاع متساوية ، لا يزيد بعضها على بعض بمجرَّد طبائعها ، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل : المسطرة والبيكار .

الثاني : أنه ثبت في الهندسة أنَّ تلك البيوت لو كانت مشكلة بأشكال سوى المسدَّسات ، فإنه يبقى بالضَّرورة فيما بين تلك البيوت فرجٌ خالية ضائقة ، أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة ، فإنه لا يبقى فيها فرج خالية ضائقة ، فاهتداء ذلك الحيوان الضَّعيف إلى تلك الحكمة الخفيَّة الدَّقيقة اللَّطيفة من الأعاجيب .

الثالث : أن النَّحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرَّئيس للبقيَّة ، وذلك الواحد يكون أعظم جثَّة من الباقي ، ويكون نافذ الحكم على البقيَّة ، وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه ، وذلك أيضاً من الأعاجيب .

الرابع : أنها إذا نفرت ، وذهبت من وكرها مع الجماعة إلى موضع آخر ، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ، ضربوا الطبول وآلات الموسيقى ، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردِّها إلى أوكارها ، وهذه أيضاً حالةٌ عجيبةٌ ، فلمَّا امتاز هذا الحيوان بهذه الخواصِّ العجيبة الدالَّة على مزيد الذَّكاء والكياسة ، ليس إلا على سبيل الإلهام ، وهي حالة شبيهة بالوحي ، لا جرم قال - سبحانه وتعالى - في حقِّها : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } .

فصل

قال أبو العباس أحمد بن علي المقري - رحمه الله- : الوحي يردُ على ستَّة أوجه :

الأول : الرِّسالة ؛ قال - تعالى- : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [ النساء : 163 ] ، أي : أرسلنا إليك .

الثاني : الإلهام ؛ قال - تعالى - : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] .

الثالث : الإيماءُ ، قال - تعالى - : { فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ } [ مريم : 11 ] أي : أومأ إليهم .

الرابع : الكتابة ، قال - تعالى - : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } [ الأنعام : 121 ] ، أي : يكتبون إليهم .

الخامس : الأمر ، قال - تعالى - : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 5 ] ، أي : أمرها .

السادس : الخلق ، قال - تعالى - : { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } [ فصلت : 12 ] ، أي : خلق .

قال القرطبي{[19962]} : الإلهام هو ما يخلقه الله - تعالى - في القلب ابتداء من غير سبب ظاهرٍ ؛ قال - تعالى - : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [ الشمس : 7 ، 8 ] ، ومن ذلك البهائم ، وما يخلقه الله فيها من إدراك منافعها ، واجتناب مضارِّها ، وتدبير معاشها ، وقد أخبر الله - تعالى - عن الأرض فقال :

{ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } [ الزلزلة : 4 ، 5 ] .

واعلم أن الوحي قد ورد في حقِّ الأنبياء ؛ قال - تعالى - : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] ، وفي حقِّ الأولياء ؛ قال - تعالى - : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين } [ المائدة : 111 ] ، وبمعنى الإلهام في حقِّ بقية البشر ؛ قال - تعالى- : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } [ القصص : 7 ] ، وفي حقِّ سائر الحيوانات بمعنى خاصّ .

قال الزجاج : يجوز أن يقال : سمِّي هذا الحيوان نحلاً ؛ لأن الله - تعالى - نحل النَّاس العسل الذي يخرج من بطونها .

وقال غيره : النَّحل يذكَّر ويؤنث ، على قاعدة أسماء الأجناس ، فالتأنيث فيها لغة الحجاز ، ولذلك أنثها الله - تعالى - وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلاَّ الهاء .

وقرأ ابن وثَّاب{[19963]} : " النَّحَل " ، بفتح الحاء ، فيحتمل أن يكون لغة مستقلة ، وأن يكون إتباعاً .

قوله : " أن اتَّخذِي " يجوز أن تكون مفسِّرة ، وأن تكون مصدريَّة .

واستشكل بعضهم كونها مفسِّرة ، قال : لأنَّ الوحي هنا ، ليس فيه معنى القول ؛ إذ هو الإلهام لا قول فيه .

وفيه نظر ؛ لأن القول لكل شيء بحسبه .

و " مِنَ الجِبَالِ " ، " من " فيه للتبعيض ؛ إذ لا يتهيَّأ لها ذلك في كل جبلٍ ولا شجر ، وتقدَّم القول في " يَعْرِشُون " ، ومن قرأ بالكسر والضم في الأعراف .

والمراد ب " ممَّا يَعْرِشُونَ " ، ما يبنون لها من الأماكن التي تأوي إليها ، وقرئ{[19964]} : " بِيُوتاً " ، بكسر الباء .

فصل

اعلم أن النَّحل نوعان :

أحدهما : ما يسكن الجبال والغياض ولا يتعهَّدها أحد من النَّاس .

والثاني : ما يسكن البيوت ويتعهَّدها الناس ، فالأول هو المراد بقوله عز وجل : { أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر } .

والثاني هو المراد بقوله - عز وجل - :{ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } ، وهو خلايا النحل ، واختلفوا فيه .

فقال بعضهم : لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول مخصوصة ، بحيث يمكن أن يتوجَّه عليها أمر الله ونهيه .

وقال آخرون : المراد منه أنه - تعالى - خلق غرائز وطبائع توجبُ هذه الأحوال ، وسيأتي الكلام على ذلك في قوله - تعالى - : { ياأيها النمل } [ النمل : 18 ] إن شاء الله - تعالى- .


[19962]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 10/88.
[19963]:ينظر: القرطبي 10/88 والبحر 5/496، والدر المصون 4/346.
[19964]:ينظر: الإتحاف 2/186.