تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ} (68)

الآية : 68 . وقوله تعالى : { وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا } ، إلى أخر ما ذكر . قال بعضهم : أوحى : أي : {[10269]} قذف في قلوبها أن افعلي ما ذكر . والوحي هو القذف ، سمي بذلك لسرعة وقوعه ونفاذه في القلوب ، من غير أن يشعر الملقى فيه والمقذوف في قلبه أن أحدا فعل ذلك ، وألقاه فيه ؛ وهو ما مكن الله للشيطان من الوسوسة في القلوب ، من غير أن يعلم الموسوس إليه والمقذوف في قلبه أن أحدا دعاه إلى ذلك ، أو زينه إليه{[10270]} ، وكذلك ما يُلهِم الملائكة بني آدم من غير أن يعلموا{[10271]} أن أحدا دعاهم {[10272]} إلى ذلك ، أو ألقاه في قلوبهم .

فهذا كله يرد على من يُنكِر الشيطان والملائكة ، وهم طائفة من المُلحِدة ؛ يقولون : أن الشهوات والأماني التي جعلت في أنفسهم هي التي تحثهم ، وتهيجهم على ذلك لا الشيطان . فيقال لهم : إن الإنسان قد يناله أشياء من غير أن كان منه تفكر في ذلك أو أماني أو سابق تدبير ، فذلك يدل أن غيرا ألقى ذلك في قلبه وقذفه ، {[10273]} ، لا عمل الأماني والشهوات ، وهذا أيضا يدل على لطف الله في البشر أنه يوفقهم على الطاعات ، ويحثهم عليها من غير أن ( يعلموا أن لغير ) {[10274]} في ذلك صنعا . وكذلك الخذلان في المعاصي ، وأنواع الأجرام التي يكتسبونها .

ثم يحتمل قوله : { وأوحى ربك إلى النحل } ، أي : النحل وغيرها من البهائم ، وجهين :

أحدهما : يحتمل أنه أنشأ هذه البهائم على طبائع تعرف بالطبع مصالحها ومهالكها ومعاشها ، وما به قوام أبدانها وأنفسها ، وما به فسادها وصلاحها ، من غير أن تعلم أن أحدا يدعوها {[10275]} إلى ذلك أو يشير إليها أو يأمر ، وينهى . لكنها{[10276]} بالطبع تعرف ذلك ، وتعلم ( أشياء تعلمها ) {[10277]} بالطبائع من غير أن تعلم أن أحدا علمها {[10278]} ذلك ، من نحو الوَزِّ يسبح في الماء بالطبع من غير أن يعلم { أنه يسبح }{[10279]} . وكذلك الطير الذي يطير في الهواء من غير أن يعلم بالطيران . فعلى ذلك يحتمل فهم هذه البهائم وعِرْفَانُها ما ذكرنا من المصالح والمهالك من غير أن تعلم أنها تعرف ذلك ، والله أعلم .

والثاني : يحتمل أن يكون الله عز وجل خلق {[10280]} هذه الأشياء بالذي تقف {[10281]} على المخاطبات والأمر والنهي ، وتعرف {[10282]} ذلك ما لا يعرف مثله البشر .

ألا ترى أن البشر لا يعرف المهالك والمصالح إلا بالتعلم ؟ والبهائم ، وإن صَغُرَ ( حجمها ، تعرف ذلك ) {[10283]} حتى تتوقى المهالك ، وترغب {[10284]} في المصالح ؟

ومما يدل أن هذه الأشياء تفهم الأمر والنهي والمخاطبات قوله : { شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } ، { وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي انطق كل شيء } ( فصلت : 20 و 21 ) .

ألا ترى أنهم فهموا الخطاب حين {[10285]} ردوا عليهم الجواب بقوله : { أنطقنا الله } ؟ فذلك ما ذكرنا ، والله أعلم ، الوحي والقذف لكل البهائم ، لا النحل خاصة ، لما ذكرنا من معرفتها المهالك والمصالح ، وما به معاشها وغذاؤها ، ( وما به ){[10286]} فسادها وهلاكها ، حتى تعرف {[10287]} ذلك من غير أن تعلم .

والبشر لا يعرف إلا بالتعلم ، فهو ، والله أعلم ، لوجهين :

أحدهما : للمحنة : إن البشر امتحنوا بالتعليم ، فذلك امتحان لهم . والبهائم لا محنة عليهم ، فعرفوا ذلك على غير تعلم .

والثاني{[10288]} : كان للبشر فضل بعض على بعض في العلم بالتعلم ؛ إذ البهائم يستوي صغيرها وكبيرها في معرفة ذلك .

وفي بني آدم ( التفاضل والتفاوت ) {[10289]} بالتعلم ، والله أعلم .

فإن قيل : فإذا كان البهائم كلها مشتركة في ذلك الإلهام والوحي ، فما معنى تخصيص النحل في الذكر من غيرها من البهائم ؟ قيل : يحتمل تخصيص النحل بالذكر ، والله أعلم / 288 – أ / ، لما أن هذه الأشياء غير النحل ، لا تعطي تلك المنافع التي جعلت فيها ، ولا تبذل للبشر إلا بالرياضة . والنحل تعطي لهم ذلك ، وتبذل من غير تعلم ولا رياضة ، والله أعلم .


[10269]:من م، في الأصل: أو.
[10270]:في الأصل وم: ذلك.
[10271]:في الأصل وم: علموا.
[10272]:في الأصل وم: دعاه.
[10273]:في الأصل وم: وقذف.
[10274]:في الأصل وم: علموا أن يغير.
[10275]:في الأصل وم: يدعوهم.
[10276]:في الأصل وم: لكنه.
[10277]:في الأصل وم: من نحو أشياء يعلمن أشياء.
[10278]:في الأصل وم: علمن.
[10279]:في الأصل وم: تسبيح.
[10280]:في الأصل وم: خلقه.
[10281]:في الأصل وم: يقفون.
[10282]:في الأصل وم: ويعرفون.
[10283]:في الأصل وم: ذلك تعرف.
[10284]:في الأصل وم: وترغيب.
[10285]:في الأصل وم: حيث.
[10286]:في الأصل وم: مما.
[10287]:في الأصل وم: يعرفن.
[10288]:في الأصل وم: أو.
[10289]:في الأصل وم: يتفاضل ويتفاوت.