فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ} (68)

{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( 68 ) } .

{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } ، قد تقدم الكلام في الوحي ، وأنه يكون بمعنى الإلهام ، وهو ما يخلقه في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر ، ومنه قوله سبحانه : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } . ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو لكل فرد من الناس ممن له عقل وتفكر يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته ، وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها ، بلطيف حكمته وقدرته .

وقرئ : النحَل ، بفتح الحاء ، قال الزجاج : وسمي نحلا ؛ لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه ، قال الجوهري : والنحل والنحلة : الدبر ، يقع على الذكر والأنثى . وقيل : اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، ويذكر ويؤنث ، والنحل بالضم : مصدر قولك نحلته من العطية ، أنحله نحلا ، والنحلى العطية على فعل .

{ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا } ، أي : بأن اتخذي ، على أن { أن } هي المصدرية ، ويجوز أن تكون تفسيرية ؛ لأن في الإيحاء معنى القول ، وبهذا قال الزمخشري وغيره . ومن منع وهو أبو عبد الله الرازي قال : لا نسلم أنها مفسرة ، كيف وقد انتفى شرط التفسير بأن المراد من الإيحاء هو الإلهام اتفاقا ، وليس فيه معنى القول ، وحينئذ فهي مصدرية ، كأنه قيل أوحى ربك باتخاذ بعض الجبال بيوتا ، ورده في المعنى بأن الإلهام فيه معنى القول ، من حيث الدلالة على المعنى .

وأنث الضمير في " اتخذي " ؛ لكونه أحد الجائزين كما تقدم ؛ أو للحمل على المعنى ؛ أو لكون النحل جمعا ، وأهل الحجاز يؤنثون النحل ، والمعنى سخرها لما خلقها له ، وألهمها رشدها ، وقدر في نفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر ، وذلك أن النحل تبني بيوتا على شكل مسدس من أضلاع متساوية ، لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ، ولو كانت البيوت مدورة ، أو مثلثة ، أو مربعة ، أو غير ذلك من الأشكال ، لكان فيها فرج خالية ضائعة ، ولما حصل المقصود . فألهمها الله تعالى أن تبنيها على هذا الشكل المسدس ، الذي لا يحصل فيه خلل ، ولا فرجة خالية .

وألهمها أيضا أن يجعلوا عليهم أميرا كبيرا نافذ الحكم فيهم ، وهم يطيعونه ويمتثلون أمره ، ويكون هذا الأمير أكبرهم جثة وأعظمهم خلقة ، ويسمى يعسوب النحل ، يعني : ملكهم ، كذا حكاه الجوهري .

وألهمها أيضا أن جعلوا على باب كل خلية بوابا ، لا يمكن غير أهلها من الدخول إليها . وألهمها أيضا أن تخرج من بيوتها فتدور وترعى ، ثم ترجع إلى بيوتها ولا تضل عنها ، ولما امتاز هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والفطنة ، دل ذلك على الإلهام الإلهي .

و " من " في " من الجبال " ، { وَ } كذا في { مِنَ الشَّجَرِ } ، { وَ } كذا في { مِمَّا يَعْرِشُونَ } ؛ للتبعيض ، أي : مساكن توافقها ، تليق بها في كوى الجبال وتجويف الشجر ، وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجباح{[1053]} والحيطان وغيرها ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب ، يقال : عرش يعرش ، بكسر الراء وضمها ، وهما سبعيتان ، وبابه نصر وضرب ، كما في المختار .

والظاهر أن " من " في { مما } ، بمعنى : في ؛ إذ لا معنى لكونها تبنى من بناء الناس ، بل الظاهر أنها تبنى في بنائهم ، ويكون المراد من بنائهم : الكوارة ، ومن بنائها : بيتها الذي تمج فيه العسل ، فإن من المشاهد أنها تبني لها بيتا داخل الخلية من الشمع ، ثم تمج فيه العسل شيئا فشيئا .

والظاهر أن { من } في الموضعين الأولين ، بمعنى : في أيضا ، كما صرح به الشهاب ، ويكون المراد ببيوتها : ما تبنيه من الشمع كما تقدم ، فالشمع تارة تبنيه في الجبال ، وتارة في الأشجار ، وهذا في النحل الوحشي ، وتارة تبنيه في الخلايا ، وهذا في النحل الأهلي ؛ فإن النحل قسمان ، كما ذكره الخازن .


[1053]:الجبح ويثلث خلية العسل الجمع أجبح وأجباح. أ هـ قاموس.