{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( 68 ) } .
{ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } ، قد تقدم الكلام في الوحي ، وأنه يكون بمعنى الإلهام ، وهو ما يخلقه في القلب ابتداء من غير سبب ظاهر ، ومنه قوله سبحانه : { ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها } . ومن ذلك إلهام البهائم لفعل ما ينفعها وترك ما يضرها ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، أو لكل فرد من الناس ممن له عقل وتفكر يستدل به على كمال قدرة الله ووحدانيته ، وأنه الخالق لجميع الأشياء المدبر لها ، بلطيف حكمته وقدرته .
وقرئ : النحَل ، بفتح الحاء ، قال الزجاج : وسمي نحلا ؛ لأن الله سبحانه نحله العسل الذي يخرج منه ، قال الجوهري : والنحل والنحلة : الدبر ، يقع على الذكر والأنثى . وقيل : اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء ، ويذكر ويؤنث ، والنحل بالضم : مصدر قولك نحلته من العطية ، أنحله نحلا ، والنحلى العطية على فعل .
{ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا } ، أي : بأن اتخذي ، على أن { أن } هي المصدرية ، ويجوز أن تكون تفسيرية ؛ لأن في الإيحاء معنى القول ، وبهذا قال الزمخشري وغيره . ومن منع وهو أبو عبد الله الرازي قال : لا نسلم أنها مفسرة ، كيف وقد انتفى شرط التفسير بأن المراد من الإيحاء هو الإلهام اتفاقا ، وليس فيه معنى القول ، وحينئذ فهي مصدرية ، كأنه قيل أوحى ربك باتخاذ بعض الجبال بيوتا ، ورده في المعنى بأن الإلهام فيه معنى القول ، من حيث الدلالة على المعنى .
وأنث الضمير في " اتخذي " ؛ لكونه أحد الجائزين كما تقدم ؛ أو للحمل على المعنى ؛ أو لكون النحل جمعا ، وأهل الحجاز يؤنثون النحل ، والمعنى سخرها لما خلقها له ، وألهمها رشدها ، وقدر في نفسها هذه الأعمال العجيبة التي تعجز عنها العقلاء من البشر ، وذلك أن النحل تبني بيوتا على شكل مسدس من أضلاع متساوية ، لا يزيد بعضها على بعض بمجرد طباعها ، ولو كانت البيوت مدورة ، أو مثلثة ، أو مربعة ، أو غير ذلك من الأشكال ، لكان فيها فرج خالية ضائعة ، ولما حصل المقصود . فألهمها الله تعالى أن تبنيها على هذا الشكل المسدس ، الذي لا يحصل فيه خلل ، ولا فرجة خالية .
وألهمها أيضا أن يجعلوا عليهم أميرا كبيرا نافذ الحكم فيهم ، وهم يطيعونه ويمتثلون أمره ، ويكون هذا الأمير أكبرهم جثة وأعظمهم خلقة ، ويسمى يعسوب النحل ، يعني : ملكهم ، كذا حكاه الجوهري .
وألهمها أيضا أن جعلوا على باب كل خلية بوابا ، لا يمكن غير أهلها من الدخول إليها . وألهمها أيضا أن تخرج من بيوتها فتدور وترعى ، ثم ترجع إلى بيوتها ولا تضل عنها ، ولما امتاز هذا الحيوان الضعيف بهذه الخواص العجيبة الدالة على مزيد الذكاء والفطنة ، دل ذلك على الإلهام الإلهي .
و " من " في " من الجبال " ، { وَ } كذا في { مِنَ الشَّجَرِ } ، { وَ } كذا في { مِمَّا يَعْرِشُونَ } ؛ للتبعيض ، أي : مساكن توافقها ، تليق بها في كوى الجبال وتجويف الشجر ، وفي العروش التي يعرشها بنو آدم من الأجباح{[1053]} والحيطان وغيرها ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الخشب ، يقال : عرش يعرش ، بكسر الراء وضمها ، وهما سبعيتان ، وبابه نصر وضرب ، كما في المختار .
والظاهر أن " من " في { مما } ، بمعنى : في ؛ إذ لا معنى لكونها تبنى من بناء الناس ، بل الظاهر أنها تبنى في بنائهم ، ويكون المراد من بنائهم : الكوارة ، ومن بنائها : بيتها الذي تمج فيه العسل ، فإن من المشاهد أنها تبني لها بيتا داخل الخلية من الشمع ، ثم تمج فيه العسل شيئا فشيئا .
والظاهر أن { من } في الموضعين الأولين ، بمعنى : في أيضا ، كما صرح به الشهاب ، ويكون المراد ببيوتها : ما تبنيه من الشمع كما تقدم ، فالشمع تارة تبنيه في الجبال ، وتارة في الأشجار ، وهذا في النحل الوحشي ، وتارة تبنيه في الخلايا ، وهذا في النحل الأهلي ؛ فإن النحل قسمان ، كما ذكره الخازن .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.