قوله تعالى : { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } قرأ ابن كثير وأهل البصرة : يدفع . وقرأ الآخرون :يدافع بالألف ، يريد : يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم عنهم { إن الله لا يحب كل خوان كفور } يعني : خوان في أمانة الله كفور لنعمته ، قال ابن عباس : خانوا الله فجعلوا معه شريكاً وكفروا نعمه . قال الزجاج : من تقرب إلى الأصنام بذبيحته وذكر عليها اسم غير الله فهو خوان كفور .
{ 38 } { إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ }
هذا إخبار ووعد وبشارة من الله ، للذين آمنوا ، أن الله يدافع عنهم كل مكروه ، ويدفع عنهم كل شر -بسبب إيمانهم- من شر الكفار ، وشر وسوسة الشيطان ، وشرور أنفسهم ، وسيئات أعمالهم ، ويحمل عنهم عند نزول المكاره ، ما لا يتحملون ، فيخفف عنهم غاية التخفيف . كل مؤمن له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه ، فمستقل ومستكثر .
{ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ } أي : خائن في أمانته التي حمله الله إياها ، فيبخس حقوق الله عليه ، ويخونها ، ويخون الخلق .
{ كَفُورٌ } لنعم الله ، يوالي عليه الإحسان ، ويتوالى منه الكفر والعصيان ، فهذا لا يحبه الله ، بل يبغضه ويمقته ، وسيجازيه على كفره وخيانته ، ومفهوم الآية ، أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته ، شكور لمولاه .
وبعد هذا الحديث عن الشعائر والمناسك ، أذن - سبحانه - للمؤمنين بالقتال فى سبيله ، للدفاع عن دينه وشعائره ، ووعدهم - عز وجل - بالنصر متى نصروه وحافظوا على فرائضه . . . فقال - تعالى - : { إِنَّ الله . . . . } .
قال الفخر الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما بين ما يلزم فى الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة ، وما كان من صد الكفار عنه ، أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد . ويؤمن معه التمكن من الحج فقال - تعالى - { إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا } .
ومفعول " يدافع " محذوف . وجاء التعبير بقوله - تعالى - { يُدَافِعُ } بصيغة المفاعلة ، للمبالغة فى الدفاع والدفع ، أو للدلالة على أن ذلك حاصر للمؤمنين كلما حصل من الكافرين عدوان عليهم .
أى : أن الله - تعالى - بفضله وكرمه يدافع عن المؤمنين أعداءهم وخصومه ، فيرد كيدهم فى نحورهم .
وصح أن يكون { يُدَافِعُ } بمعنى يدفع ، ويؤيده قراءة ابن كثير وأبى عمرو . أى : أن الله - تعالى - يدفع السوء عن عباده المؤمنين الصادقين ، ويجعل العاقبة لهم على أعداءهم .
فالجملة الكريمة بشارة للمؤمنين ، وتقوية لعزائمهم حتى يقبلوا على ما شرعه الله لهم من جهاد أعدائهم ، بثبات لا تردد معه ، وبأمل عظيم فى نصر الله وتأييده .
وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } تعليل لوعده - سبحانه - للمؤمنين بالدفاع عنهم ، وبجعل العاقبة لهم .
والخوان : هو الشديد الخيانة ، والكفور : هو المبالغ فى كفره وجحوده ، فاللفظان كلاهما صيغة مبالغة .
قال الآلوسى : وصيغة المبالغة فيهما لبيان أن المشركين كذلك ، لا للتقييد المشعر بمحبة الخائن والكافر . . . .
أى : إن الله - تعالى - يدافع عن المؤمنين لمحبته لهم ، ويبغض هؤلاء الكافرين الذين بلغوا فى الخيانة والكفر اقصى الدركات .
وأوثر التعبير بقوله - تعالى - { لاَ يُحِبُّ } على قوله : يبغض أو يكره ، للإشعار بأن المؤمنين هم أحباء الله - تعالى - ، وللتعريض بهؤلاء الكافرين الذين تجاوزوا كل حد فى كراهيتهم لأهل الحق .
تلك الشعائر والعبادات لا بد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة ، وعلى قداسة المعابد وحرمة الشعائر ، وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة ، المتصل بالله ، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة .
ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين ، بعد أن بلغ أقصاه ، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله ، ووعدهم النصر والتمكين ، على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بينها لهم فيما يلي من الآيات :
( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، إن الله لا يحب كل خوان كفور ، أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا . وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا : ربنا الله . ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا . ولينصرن الله من ينصره ، إن الله لقوي عزيز ، الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور ) . .
إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض ، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال ؛ والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان .
والشر جامح والباطل مسلح . وهو يبطش غير متحرج ، ويضرب غير متورع ؛ ويملك أن يفتن الناس عن الخير إن اهتدوا إليه ، وعن الحق إن تفتحت قلوبهم له . فلا بد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش ، وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم .
ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل ، اعتمادا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر ، وعمق الخير في القلوب . فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر . وللصبر حد وللاحتمال أمد ، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه . والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم . ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة ، إلا ريثما يستعدون للمقاومة ، ويتهيأون للدفاع ، ويتمكنون من وسائل الجهاد . . وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان .
وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته : ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) . .
وأنه يكره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتما : ( إن الله لا يحب كل خوان كفور ) . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الله يدافع} كفار مكة {عن الذين ءامنوا} بمكة، هذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم، فاستشاروا النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم في السر، فنهاهم الله عز وجل.
ثم قال: {إن الله لا يحب كل خوان} يعني: كل عاص {كفور} بتوحيد الله، عز وجل.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الله يدفع غائلة المشركين عن الذين آمنوا بالله وبرسوله، إن الله لا يحبّ كلّ خوان يخون الله فيخالف أمره ونهيه ويعصيه ويطيع الشيطان، "كَفُورٍ "يقول: جَحود لنعمه عنده، لا يعرف لمنعمها حقه فيشكره عليها. وقيل: إنه عني بذلك دفع الله كفار قريش عمن كان بين أظهرهم من المؤمنين قبل هجرتهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن الله يدافع عن الذين آمنوا} وفي بعض القراءات: {إن الله يدفع عن الذين آمنوا} (بغير ألف). وتأويل {إن الله يدافع عن الذين آ منوا} أي يَدْفَعُ عن الذين آمنوا جميع شرور الكفرة وأذاهم. وتأويل {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} أي يدافع الكفار عنهم بنصر المؤمنين عليهم.
وكان قوله: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} إنما نزل بمكة وعدا للذين آمنوا هنالك النصر والدفع عنهم في حال قلتهم وضعفهم وكثرة أولئك الكفرة وقوتهم، وهنالك كانوا كذلك؛ أعني بمكة قليلا ضعفاء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أي ينصرهم ويدفع عنهم عدوهم، تارة بالقهر، وأخرى بالحجة. "إن الله لايحب كل خوان كفور "إخبار منه تعالى أنه لا يحب الخوان، وهو الذي يظهر النصيحة، ويضمر الغش للنفاق، أو لاقتطاع المال...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
خصّ المؤمنين بدفعه عنهم ونصرته لهم، كما قال: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ} [غافر: 51] وقال: {إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 172] و قال: {وأخرى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] وجعل العلة في ذلك أنه لا يحب أضدادهم: وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها. ومن قرأ: {يُدَافِعُ} فمعناه يبالغ في الدفع عنهم، كما يبالغ من يغالب فيه؛ لأن فعل المغالب يجيء أقوى وأبلغ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
روي أن هذه الآية نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر، فنزلت هذه الآية إلى قوله {كفور}، ووكد فيها بالمدافعة ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر.
اعلم أنه تعالى لما بين ما يلزم الحج ومناسكه وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وقد ذكرنا من قبل أن الكفار صدوهم أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد ويؤمن معه التمكن من الحج فقال: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} ذكر {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} ولم يذكر ما يدفعه حتى يكون أفخم وأعظم وأعم، وإن كان في الحقيقة أنه يدافع بأس المشركين. فلذلك قال بعده {إن الله لا يحب كل خوان كفور} فنبه بذلك على أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذا صفته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... {إن الله} أي الذي لا كفوء له {يدافع عن الذين آمنوا} لأنهم بدخولهم في الإيمان لم يكونوا مبالغين في الخيانة ولا في الكفر فهو يحبهم، فكيف بالمحسنين الذين ختمت بهم الآية السالفة، أي فيظهرهم على عدوهم -هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب بغير ألف، وفي قراءة الباقين مبالغة بإخراج الفعل على المغالبة، فكأنه قال: بشرهم بأن الله يدفع عنهم، ولكنه تعالى أظهر الأوصاف ليفهم أنها مناط الأحكام والتعبير، فعبر بالفعل الماضي ترغيباً، أي لكل من أوقع هذا الوصف في الخارج إيقاعاً ما دفع عنه؛ ثم علل ذلك بقوله: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال {لا يحب} أي لا يكرم كما يفعل المحب {كل خوان} في أمانته، مانع لعباده من بيته الذي هو للناس سواء العاكف فيه والبادي {كفور} لنعمته بالتقرب إلى غيره، فهو يفعل مكارم الأخلاق صورة ليس فيها معنى أصلاً، لا يصححها بذكر الله وحده، ولا يجملها بالإحسان، وأتى بالصفتين على صيغة المبالغة لأن نقائص الإنسان لا يمكنه أن يفعلها خالية عن المبالغة، لأنه يخون نفسه بالعزم أولاً، والفعل ثانياً وغيره من الخلق ثالثاً، وكذا يخون نفسه ربه سبحانه وهكذا في الكفر وغيره، ولما كانت الخيانة منبع النقائص، كانت المبالغة فيها أكثر.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
وقرئ (يدافع)، وهو بمعنى يدفع، ولكنه أريد قوة الدفع فجيء بفاعل، الذي يقتضي المغالبة في أصله؛ لأن دفع المغالب أقوى وأبلغ. أو لأن ما يهيئه الله لهم من أسباب الدفع التي يباشرونها، مقابلة لما يقصدهم به أضدادهم؛ فكان الدفع من الجانبين. عندما يكون المؤمنون في قلة وضعف، وأعداؤهم في كثرة وقوة – كالحالة التي كان عليها المؤمنون يوم نزلت الآية بعد الهجرة – تشك النفوس في سلامتهم من كيد عدوهم؛ فلذا جاء هذا الخبر مؤكدا بأن. ولكون هذا الدفع متجددا جيء بالفعل مضارعا.شرط النصر: هذا من الله – تعالى – خبر حق ووعد صدق للمؤمنين، بأنه يرد عنهم كيد أعدائهم، ويبطل مكرهم، ويكف شرهم، وإن عظم ذلك منهم وكثر. وإن هذا منه لم لهم متكرر متجدد، ذلك لأنهم بإيمانهم حافظوا على أمانة الله عندهم، وعهده لديهم، واعترفوا بنعمه وشكروها، فأحبهم الله ورضى عنهم، فأيدهم ونصرهم، ودافع عنهم. ولأن أعداءهم ضيعوا أمانة الله عندهم، بارتكاب المنهيات، وترك المأمورات، وجحدوا وحدانيته أو نبوة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم – أو ما جاءهم به من شرعه فأبغضهم ورد كيدهم مغلوبين مدحورين.
تحرير في التعليل: عدم الطاعة يحرم النصر: إن الحب من الله والبغض كسائر أفعاله، لا تقع إلا على وجه الحق والعدل والسداد، وهذا أمر واجب لأفعال الرب الحكيم، فالمؤمنون أحبهم ونصرهم لإيمانهم، وأعداؤهم أبغضهم وخذلهم لخيانتهم وكفرهم. واقتضت هذه المقابلة أن الخيانة والكفر من صفات أضدادهم، وليست من صفاتهم، فإيمانهم مستلزم لأمانتهم بحفظ عهد الله عندهم: في نفوسهم، وعقولهم، وأبدانهم، وجميع ما لديهم على جميع أحوالهم، ومستلزم لاعترافهم بنعم الله وشكره عليها، باستعمالها في طاعته وطلب المزيد من بره. وأمانتهم هذه وشكره هي مظهر إيمانهم الذي يميزهم عن أضدادهم، ويدل على صدقهم في ذلك الإيمان، ورسوخه في قلوبهم. فإذا عدمت منهم الأمانة فخانوا الله والرسول، وخانوا أماناتهم، وفشت الفواحش و المناكر والبدع فيهم، وصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وإذا بطروا نعم الله عندهم فعطلوا منها ما عطلوا بجهلهم وكسلهم وقعودهم عن الخير، وأسباب الحياة والسعادة، واستعملوا منها ما استعملوا في الشر والفساد واتباع الشهوات – إذا كانوا هكذا فقد استوجبوا غضب الله وبغضه ونقمته، وحرموا نصرته ودفاعه، وكانوا هم الظالمين...
تنبيه وتحذير: كل عمل لا يحل فهو خيانة، وإن كان بأدنى إشارة، وقد نبه الله على هذا بقوله:"يعلم خائنة الأعين"، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحل والإشارة بطرف العين فيما يحرم.
خيانة العامة: وأعظم الخيانة بعد الكفر خيانة العامة، لأن الذنب يعظم بعظم أثره وانتشار ضرره. ولهذا جاء ما جاء من الوعيد الشديد فيمن ولي أمرا من أمور المسلمين فغشهم ولم ينصح لهم. فحق على المسلم أن يحذر من الخيانة دقيقها وجليلها، وخصوصا ما اتصل بالناس منها، ويتنبه من أقل كلمة وأدنى إشارة توقعه في خطرها.
سؤال وجوابه: فإن قيل: قد نجد من عباد الله المؤمنين من يصيبه البلاء والشدة، فيعذب وقد يقتل: "وكأين من نبي قتل "؟ وقد أصاب المؤمنين يوم أحد ويوم حنين ما أصابهم؟
البلايا امتحانات: فالجواب: إن دفع الله يكون بأسباب وأنواع، وعلى وجوه تختلف بحسب الحكمة، ولا تخلوا كلها من دفاع، فإن ما يصيب المؤمنين من البلاء في أفرادهم وجماعتهم وهو ابتلاء بكسبهم القوة والجلد، ويقوي فيهم خلق الصبر والثبات وينبههم إلى مواطن الضعف فيهم أو ناحية التقصير منهم، فيتداركو أمرهم بالإصلاح و المتاب، فإذا هم بعد ذلك الابتلاء أصلب عودا، وأطهر قلوبا، وأكثر خبرة، وأمنع جانبا. وإن في صبر الصابر منهم وقد نزل به البلاء الذي لا يقدر على دفعه، والظلم الذي لا يقدر على إزالته – لبعثا للقوة في نفس غيره ممن يأتسي به، وضعفا في قلب ظالمه، وفي كليهما دفع من الله عن المؤمنين.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا إخبار ووعد وبشارة من الله، للذين آمنوا، أن الله يدافع عنهم كل مكروه، ويدفع عنهم كل شر -بسبب إيمانهم- من شر الكفار، وشر وسوسة الشيطان، وشرور أنفسهم، وسيئات أعمالهم، ويحمل عنهم عند نزول المكاره، ما لا يتحملون، فيخفف عنهم غاية التخفيف. كل مؤمن له من هذه المدافعة والفضيلة بحسب إيمانه، فمستقل ومستكثر. {كَفُورٌ} لنعم الله، يوالي عليه الإحسان، ويتوالى منه الكفر والعصيان، فهذا لا يحبه الله، بل يبغضه ويمقته، وسيجازيه على كفره وخيانته ومفهوم الآية، أن الله يحب كل أمين قائم بأمانته، شكور لمولاه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تلك الشعائر والعبادات لا بد لها من حماية تدفع عنها الذين يصدون عن سبيل الله وتمنعهم من الاعتداء على حرية العقيدة وحرية العبادة، وعلى قداسة المعابد وحرمة الشعائر، وتمكن المؤمنين العابدين العاملين من تحقيق منهاج الحياة القائم على العقيدة، المتصل بالله، الكفيل بتحقيق الخير للبشرية في الدنيا والآخرة. ومن ثم أذن الله للمسلمين بعد الهجرة في قتال المشركين ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم اعتداء المعتدين، بعد أن بلغ أقصاه، وليحققوا لأنفسهم ولغيرهم حرية العقيدة وحرية العبادة في ظل دين الله، ووعدهم النصر والتمكين، على شرط أن ينهضوا بتكاليف عقيدتهم التي بينها لهم فيما يلي من الآيات: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور... ولله عاقبة الأمور).. إن قوى الشر والضلال تعمل في هذه الأرض، والمعركة مستمرة بين الخير والشر والهدى والضلال؛ والصراع قائم بين قوى الإيمان وقوى الطغيان منذ أن خلق الله الإنسان...
فلا بد للإيمان والخير والحق من قوة تحميها من البطش، وتقيها من الفتنة وتحرسها من الأشواك والسموم. ولم يشأ الله أن يترك الإيمان والخير والحق عزلا تكافح قوى الطغيان والشر والباطل، اعتمادا على قوة الإيمان في النفوس وتغلغل الحق في الفطر، وعمق الخير في القلوب. فالقوة المادية التي يملكها الباطل قد تزلزل القلوب وتفتن النفوس وتزيغ الفطر. وللصبر حد وللاحتمال أمد، وللطاقة البشرية مدى تنتهي إليه. والله أعلم بقلوب الناس ونفوسهم. ومن ثم لم يشأ أن يترك المؤمنين للفتنة، إلا ريثما يستعدون للمقاومة، ويتهيأون للدفاع، ويتمكنون من وسائل الجهاد.. وعندئذ أذن لهم في القتال لرد العدوان. وقبل أن يأذن لهم بالانطلاق إلى المعركة آذنهم أنه هو سيتولى الدفاع عنهم فهم في حمايته: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا).. وأنه يكره أعداءهم لكفرهم وخيانتهم فهم مخذولون حتما: (إن الله لا يحب كل خوان كفور)..
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
في الربع الماضي تحدث كتاب الله عما قام به مشركو قريش من صد رسول الله والمؤمنين عن البيت الحرام عام الحديبية، إلحادا وظلما، وفي هذا الربع يتصدى كتاب الله لتقرير حق الدفاع عن النفس والدين، لأول مرة، دفعا للظلم، ومقاومة للإلحاد، حتى يتحرر البيت الحرام من رجس الأوثان، ولا يبقى تحت ربقة الوثنيين، وحتى يتحرر المستضعفون بمكة من عنت المشركين. وقبل أن يأذن الله للمؤمنين بقتال من ظلمهم، وتثبيتا لهم على الحق، أوحى إلى رسوله انه سبحانه سيتولى الدفاع عنهم، وأنهم سيكونون في حمايته ورعايته، عندما يعدون العدة لمكافحة الباطل وتقليم أظفاره، ويهبون لنصرة الحق وتحرير أنصاره، فمن كان الله له عونا، لم يخف هضما ولا غبنا، وإلى المعنى يشير قوله تعالى في بداية هذا الربع: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا}، وكما ألقى بهذا الوعد الحق السكينة في قلوب المؤمنين، أعلن غضبه على الكفر والكافرين، وسخطه على الخيانة والخائنين، ومن غضب الله عليه وكله إلى نفسه أحوج ما يكون إليه، وخذله حتى أقرب الناس إليه، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في نفس السياق: {إن الله لا يحب كل خوان كفور}. وهكذا تضمنت هذه الآية وعدا من الله بنصر المؤمنين، ووعيدا بخذلان الكافرين والخائنين، والخيانة هنا تصدق بالأصالة على "الخيانة الكبرى "وهي خيانة الأمانة الإلهية التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، مما يجب على الإنسان الوفاء به من حقوق الله وحقوق العباد في كل آن، وتصدق بالتبع على بقية صنوف وحقوق العباد في كل آن، وتصدق بالتبع على بقية صنوف الخيانات، مما يتفرع عنها ويظهر أثره في مختلف التصرفات.
صدر الآية: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} يشعرنا أن هناك معركة، والمعركة التي يدافع الله فيها لا بد أنها بين حق أنزله، وباطل يواجهه، وقد تقدم قبل ذلك أن قال تبارك وتعالى: {هذان خصمان اختصموا في ربهم.. (19)} [الحج]. وما دام أن هناك خصومة فلا بد أن تنشأ عنها معارك، هذه المعارك قد تأخذ صورة الألفاظ والمجادلة، وقد تأخذ صورة العنف والقوة والشراسة والالتحام المباشر بأدوات الحرب...
والمعركة تعني: منتصر ومنهزم، لذلك الحق- تبارك وتعالى- يطمئن المؤمنين أنه سيدخل المعركة في صفوفهم، وسيدافع عنهم. فقوله تعالى: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} أمر طبيعي، لأن الحق سبحانه ما كان ليرسل رسولا، ويتركه لأهل الباطل يتغلبون عليه، وإلا فما جدوى الرسالة إذن، لذلك يطمئن الله تعالى رسوله ويبشره، فيقول: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين (171) إنهم لهم المنصورون (172) وإن جندنا لهم الغالبون (173)} [الصافات]...
فهذه كلها آيات تطمئن المؤمنين وتبشرهم، وقد جاءت على مراحل لحكمة أرادها الحق سبحانه، فمنعهم عن القتال في البداية لحكمة، ثم جعل القتال فيما بينهم، وقبل أن يأذن لهم في قتال أعدائهم لحكمة: هي أن يبلوا المؤمنين ويمحصهم ليخرج من صفوفهم أهل الخور والجبن، وضعيفي الإيمان الذين يعبدون الله على حرف، ولا يبقى بعد ذلك إلا قوي الإيمان ثابت العقيدة، الذي يحمل راية هذا الدين وينساح بها في بقاع الأرض، لأنها دعوة عالمية لكل زمان ولكل مكان إلى أن تقوم الساعة، ولما كانت هذه الدعوة بهذه المنزلة كان لا بد لها من رجال أقوياء يحملونها، وإلا لو استطاع الأعداء القضاء عليها فلن تقوم لدين الله قائمة...
ثم يقول سبحانه: {إن الله لا يحب كل خوان كفور} فكأن الحق- سبحانه وتعالى- أصبح طرفا في المعركة، والخوان: صيغة مبالغة من خائن، وهو كثير الخيانة وكذلك كفور: صيغة مبالغة من كافر...
ومعنى الخيانة يقتضي أن هناك أمانة خانها. نعم، هناك الأمانة الأولى، وهي أمانة التكليف التي قال الله فيها: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان}...
وهناك أمانة قبل هذه، وهي العهد الذي أخذه الله على عباده، وهم في مرحلة الذر: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين}... وما دام هناك الخوان والكفور فلا بد للسماء أن تؤيد رسولها، وأن تنصره في هذه المعركة أولا، بأن تأذن له في القتال، ثم تأمره بأخذ العدة والأسباب المؤدية للنصر، فإن عزت المسائل عليكم، فأنا معكم أؤيدكم بجنود من عندي. وقد حدث هذا في بدء الدعوة، فأيد الله نبيه بجنود من عنده...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن المؤمنين الذين أسلموا لله في دينهم، بالالتزام به في خط العقيدة، والسير على هداه في خط العمل، وجاهدوا في سبيل الله، بكل ما يملكون من جهدٍ في أنفسهم وأموالهم؛ إن هؤلاء المؤمنين، هم الذين أخلصوا لله وحفظوا الأمانة ورعوها، أمّا المشركون والكافرون، الذين أشركوا بالله في العقيدة أو في العمل، وجحدوا رسوله، وانحرفوا عن شريعته، فهم الخائنون لله وللرسول وللحياة كلها، والكافرون بكل الحقائق الإلهية التي جعلها الله أمانة في أعناق الناس، على مستوى الفكر والعمل، وبذلك كان المؤمنون فريق الله في الحياة، بينما كان المشركون فريق الشيطان...
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُواْ} عبر توفير الفرص الملائمة للدفاع والنصرة، وعبر إثارة مشاعر الأمن والقوّة في نفوسهم،... وليس معنى ذلك أن الله قد التزم على نفسه نصر المؤمنين بصورة تكوينية، بحيث يصبح نصرهم أمراً حاسماً ومباشراً تماماً كما يخلق الله الأشياء بشكل مباشر مما لا تنفصل فيه الإرادة الإلهية عن مراده، بل معنى ذلك، هو اهتمامه بأمرهم من موقع محبته ورعايته لهم، بحيث يلطف لطفاً خفياً لا يلطف به غيرهم، وهو تعبير عن الحب عملياً بالدفاع عنهم مقابل موقف الرفض من الكافرين الخائنين لأمانة الله، على مستوى الإيمان...
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} فالله لا يحب الخيانة في سلوك الإنسان، لأنها انحراف عن خط الاستقامة التي هي أساس ثبات حركة الإنسان في قضاياه العامة وسبب استقرارها...
وخلاصة الفكرة في الآية، أن الله ينسب الدفاع عن الذين آمنوا إلى نفسه، بالطريقة نفسها التي ينسب فيها الأمور المتعلقة بالإنسان والحياة إلى ذاته، عبر الوسائل المألوفة وغير المألوفة، للإيحاء بالرعاية الخاصة التي يمنحها للمؤمنين بلطفه ورحمته؛ والله العالم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
طمأن الله سبحانه وتعالى المؤمنين بنصره (إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا). لتتّحد قبائل عرب الجاهلية مع اليهود والنصارى والمشركين في شبه الجزيرة العربية للضغط على المؤمنين كما يحلو لهم، فلن يتمكّنوا من بلوغ ما يطمحون إليه، لأنّ الله وعد المؤمنين بالدفاع عنهم وعداً تجلّى صدقه في دوام الإسلام حتّى يوم القيامة، ولا يختّص الدفاع الإلهي عن المؤمنين في الصدر الأوّل للإسلام وحسب، بل هو ساري المفعول أبد الدهر، فإن كنّا على نهج الذين آمنوا. فالدفاع الإلهي عنّا أكيد.