قوله تعالى : { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا } . قال قتادة والحسن : نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وقال أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته قي كتبهم ( ثم ازدادوا كفراً ) يعني ذنوبا في حال كفرهم . قال مجاهد : نزلت في جميع الكفار أشركوا بعد إقرارهم بأن الله خالقهم ( ثم ازدادوا كفرا ) أي أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه . قال الحسن ( ثم ازدادوا كفراً ) كلما نزلت آية كفروا بها ، فازدادوا كفراً وقيل : ( ثم ازدادوا كفراً ) بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون . قال الكلبي : نزلت في الأحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد ، لما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا هم على الكفر بمكة وقالوا : نقيم على الكفر ما بدا لنا ؟ فمتى أردنا الرجعة نزل فينا ما نزل في الحارث ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قبلت توبته ، ونزل فيمن مات منهم كافراً : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار ) الآية .
فإن قيل : قد وعد الله قبول توبة من تاب فما معنى قوله :
قوله تعالى : { لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون } . قيل : لن تقبل توبتهم إذا رجعوا في حال المعاينة ، كما قال ( وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ) وقيل : هذا في أصحاب الحارث بن سويد حيث أعرضوا عن الإسلام ، وقالوا : نتربص بمحمد ريب المنون ، فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه ( لن تقبل توبتهم ) لن يقبل ذلك لأنهم متربصون غير محققين . ( وأولئك هم الضالون ) .
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ }
يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه ، ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في الغي والضلال ، واستمراره على ترك الرشد والهدى ، أنه لا تقبل توبتهم ، أي : لا يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم الله في طغيانهم يعمهون ، قال تعالى { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة } { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } فالسيئات ينتج بعضها بعضا ، وخصوصا لمن أقدم على الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم ، وقد قامت عليه الحجة ووضح الله له الآيات والبراهين ، فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة ربه عنه ، وهو الذي سد على نفسه باب التوبة ، ولهذا حصر الضلال في هذا الصنف ، فقال { وأولئك هم الضالون } وأي : ضلال أعظم من ضلال من ترك الطريق عن بصيرة ، وهؤلاء الكفرة إذا استمروا على كفرهم إلى الممات تعين هلاكهم وشقاؤهم الأبدي ، ولم ينفعهم شيء ، فلو أنفق أحدهم ملء الأرض ذهبا ليفتدي به من عذاب الله ما نفعه ذلك ، بل لا يزالون في العذاب الأليم ، لا شافع لهم ولا ناصر ولا مغيث ولا مجير ينقذهم من عذاب الله فأيسوا من كل خير ، وجزموا على الخلود الدائم في العقاب والسخط ، فعياذا بالله من حالهم .
أما الذين لا يتوبون ولا يستغفرون ولا يتوبون إلى رشدهم ، بل يصرون على الكفر فيزدادون كفراً . والذين يرتكسون فى كفرهم وضلالهم حتى تفلت منهم الفرصة ، وينتهى أمد الاختبار ، ويأتي دور الجزاء ، فهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة ، فقد قال - تعالى - بعد هذه الآيات : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . . } .
قوله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } .
قال قتادة وعطاء : نزلت فى اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم . بموسى والتوراة . ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن .
وقال أبو العالية والحسن : نزلت فى أهل الكتاب جميعا ، آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به بعد مبعثه ، ثم ازدادوا كفرا بإصرارهم على ذلك ، وطعنهم فى نبوته فى كل وقت ، وعداوتهم له ، ونقضهم لعهودهم وصدهم الناس عن طريق الحق ، وسخريتهم بآيات الله .
ويمكن أن يقال : إن الآية الكريمة على عمومها فهى تتناول كل من آمن ثم ارتد عن الإيمان إلى الكفر ، وزداد كفرا بمقاومته للحق ، وإيذائه لأتباعه ، وإصراره على كفره وعناده وجحوده .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبتهم فقال : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون } .
أى أن هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا وعنادا وجحودا للحق { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } أى لن تتوقع منهم توبة حتى تقبل ، لأنهم بإصرارهم على كفرهم ، ورسوخهم فيه ، وتلاعبهم بالإيمان ، قد صاروا غير أهل للتوفيق لها ، ولأنهم حتى لو تابوا فتوبتهم إنما هى بألسنتهم فحسب ، أما قلوبهم فمليئة بالكفر والنفاق ولذا تعتبر توبتهم كلا توبة .
وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم تابوا عند حضور الموت ، والتوبة في هذا الوقت لا قيمة لها .
قال القرطبى : وهذا قول حسن كما قال - تعالى - : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } وبعضهم حمل عدم قبول توبتهم على أنهم ماتوا على الكفر ، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقد قال . فإن قلت : قد علم أن المرتد كيفما ازداد كفرا فإنه مقبول التوبة إذا تاب فما معنى { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } ؟ قلت : جعلت عبارة عن الموت على الكفر ، لأن الذى لا تقبل توبته من الكفار هو الذى يموت على الكفر . كأنه قيل إن اليهود أو المرتدين الذين فعلوا ما فعلوا مائتون على الكفر ، داخلون فى جملة من لا تقبل توبتهم .
فإن قلت : فأى فائدة فى هذه الكناية ؟ أعنى أن كنى الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة ؟ .
قلت : الفائدة فيها جليلة وهى التغليظ فى شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم فى صورة حالة الآيسين من الرحمى التى هى أغلظ الأحوال وأشدها ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة " .
والذى يبدو لنا أن الآية الكريمة أشد ما تكون انطباقا على أولئك الذين تتكرر منهم الردة من الإيمان إلى الكفر فهم لفساد قلوبهم ، وانطماس بصيرتهم واستيلاء الأهواء والمطامع على نفوسهم أصبح الإيمان لا استقرار له في قلوبهم بل يتلاعبون به ، ويبيعونه نظير عرض قليل من أعراض الدنيا ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - فى سورة النساء
{ إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } وقوله { وأولئك هُمُ الضآلون } أى الكاملون في الضلال ، البعيدون عن طريق الحق ، المستحقون لسخط الله وعذابه .
فأما الذين لا يتوبون ولا يثوبون . الذين يصرون على الكفر ويزدادون كفرا . والذين يلجون في هذا الكفر حتى تفلت الفرصة المتاحة ، وينتهي أمد الاختبار ، ويأتي دور الجزاء . هؤلاء وهؤلاء لا توبة لهم ولا نجاة . ولن ينفعهم أن يكونوا قد أنفقوا ملء الأرض ذهبا فيما يظنون هم أنه خير وبر ، ما دام مقطوعا عن الصلة بالله . ومن ثم فهو غير موصول به ولا خالص له بطبيعة الحال . ولن ينجيهم أن يقدموا ملء الأرض ذهبا ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة . فقد أفلتت الفرصة وأغلقت الأبواب :
( إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون . إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به . أولئك لهم عذاب أليم . وما لهم من ناصرين ) . .
وهكذا يحسم السياق القضية بهذا التقرير المروع المفزع ، وبهذا التوكيد الواضح الذي لا يدع ريبة لمستريب .
{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا } كاليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد الإيمان بموسى والتوراة ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن ، أو كفروا بمحمد بعد ما آمنوا به قبل مبعثه ثم ازدادوا كفرا بالإصرار والعناد والطعن فيه والصد عن الإيمان ونقض الميثاق ، أو كقوم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم ازدادوا كفرا بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون أو نرجع إليه وننافقه بإظهاره . { لن تقبل توبتهم } لأنهم لا يتوبون ، أو لا يتوبون ، إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكني عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبرازا لحالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة ، أو لأن توبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وزيادة كفرهم ، ولذلك لم تدخل الفاء فيه . { وأولئك هم الضالون } الثابتون على الضلال .