ثم ذكر تعالى أن { مِنْ آيَاتِهِ } الدالة على كمال قدرته ، ونفوذ مشيئته ، وسعة سلطانه ، ورحمته بعباده ، وأنه الله وحده لا شريك له { اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ } هذا بمنفعة ضيائه ، وتصرف العباد فيه ، وهذا بمنفعه ظلمه ، وسكون الخلق فيه . { وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } اللذان لا تستقيم معايش العباد ، ولا أبدانهم ، ولا أبدان حيواناتهم ، إلا بهما ، وبهما من المصالح ما لا يحصى عدده .
{ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ } فإنهما مدبران مسخران مخلوقان . { وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي خلقهن } أي : اعبدوه وحده ، لأنه الخالق العظيم ، ودعوا عبادة ما سواه ، من المخلوقات ، وإن كبر ، جرمه وكثرت مصالحه ، فإن ذلك ليس منه ، وإنما هو من خالقه ، تبارك وتعالى . { إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } فخصوه بالعبادة وإخلاص الدين له .
وبعد هذه البشارات الكريمة ، والتوجيهات الحكيمة للمؤمنين . . ساق - سبحانه - أنواعا من الأدلة الكونية الدالة على وحدانيته وقدرته ، فقال - تعالى - :
{ وَمِنْ آيَاتِهِ الليل والنهار . . . } .
المراد بالآيات فى قوله - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ . . } العلامات الدالة دلالة واضحة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته .
أى : ومن آياته على وحدانيته وقدرته - تعالى - وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وجود الليل والنهار والشمس والقمر بتلك الطريقة البديعة ، حيث إن الجميع يسير بنظام محكم ، ويؤدى وظيفته أداء دقيقا . كما قال - تعالى - : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وقوله - تعالى - { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ . . . } نهى عن السجود لغيره - تعالى - وأمر بالسجود له وحده .
أى : لا تسجدوا - أيها الناس - للشمس ولا للقمر ، لأنهما - كغيرهما - من جملة مخلوقات الله - تعالى - ، واجعلوا طاعتكم وعبادتكم لله الذى خلق كل شئ فى هذا الكون ، إن كنتم حقا تريدون أن تكون عبادتكم مقبولة عنده - عز وجل - .
فالآية الكريمة تقيم الأدلة على وجوب إخلاص العبادة لله - عز وجل - وتنهى عن عبادة غيره - تعالى - .
قال الجمل : هذا رد على قوم عبدوا الشمس والقمر ، وإنما تعرض للأربعة مع أنهم لم يعبدوا الليل والنهار ، للإِيذان بكمال سقوط الشمس والقمر عن رتبة السجودية لهما ، بنظمها فى المخلوقية فى سلك الأعراض التى لا قيام لها بذاتها ، وهذا هو السر فى نظم الكل فى سلك آياته .
وإنما عبر عن الأربع بضمير الإِناث - مع أن فيه ثلاثة مذكرة ، والعادة تغليب المذكر على المؤنث - لأنه لما قال : ومن آياته ، فنظم الأربعة فى سلك الآيات ، صار كل واحد منهما آية بعبر عنها بضمير الإِناث فى قوله { خَلَقَهُنَّ } .
( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر . لا تسجدوا للشمس ولا للقمر . واسجدوا لله الذي خلقهن . إن كنتم إياه تعبدون ) . .
وهذه الآيات معروضة للأنظار ، يراها العالم والجاهل . ولها في القلب البشري روعة مباشرة . ولو لم يعلم الإنسان شيئاً عن حقيقتها العلمية . فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية . بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة ، وفي الفطرة ، وفي التكوين . فهو منها وهي منه . تكوينه تكوينها ، ومادته مادتها ، وفطرته فطرتها ، وناموسه ناموسها ، وإلهه إلهها . . فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق !
لهذا يكتفي القرآن غالبا بتوجيه القلب إليها ، وإيقاظه من غفلته عنها ، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة ، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة . فيجلوها القرآن عنه ، لينتفض جديداً حياً يقظاً يعاطف هذا الكون الصديق ، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور .
وصورة من صور الإنحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا . فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعوراً منحرفاً ضالاً فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه ! فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف ؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة . ويقول لهم : إن كنتم تعبدون الله حقاً فلا تسجدوا للشمس والقمر . . ( واسجدوا لله الذي خلقهن )فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين . والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه . ويعيد الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً : ( خلقهن )باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم ؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل ، ويصورهن شخوصاً ذات أعيان !
يقول تعالى منبها خلقه على قدرته العظيمة ، وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر ، { وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ } أي : أنه خلق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، وهما متعاقبان لا يقران ، والشمس ونورها وإشراقها ، والقمر وضياءه وتقدير منازله في فلكه ، واختلاف سيره في سمائه ، ليُعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار ، والجمع والشهور والأعوام ، ويتبين بذلك حلول الحقوق ، وأوقات العبادات والمعاملات .
ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي ، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده ، تحت قهره وتسخيره ، فقال : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي : ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره ، فإنه لا يغفر أن يشرك به ؛
عطف على جملة { قُل أينَّكُم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } [ فصلت : 9 ] الآية عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإِلهية ، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله انتقالاً في أفانين الاستدلال فإنه انتقال من الاستدلال بذواتتٍ من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات ، فابتدىء ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار ، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر ، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله : { ومن ءاياته أنك ترى الأرض خاشعة } [ فصلت : 39 ] .
ويدل لهذا الانتقال أنه انتقل من أسلوب الغيبة من قوله : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة } إلى قوله : { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } [ فصلت : 13 34 ] إلى أسلوب خطابهم رجوعاً إلى خطابهم الذي في قوله : { أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض } [ فصلت : 9 ] .
والآيات : الدلائل ، وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده .
واختلافُ الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى ، فلا جرم كانت دليلاً على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإِلهية . وتقدم الكلام على الليل والنهار عند قوله تعالى في سورة البقرة ( 164 ) { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } } .
والمراد بالشمس والقمر ابتداءً هنا حركتُهما المنتظمة المستمرة ، وأمّا خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفاً في قوله : { فقضاهن سبع سموات } [ فصلت : 12 ] ، فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس ، ولم يُذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلُوع أو غروببٍ أو فَلَك أو نحو ذلك ليَكون صالحاً للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول ، ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله : { فقضاهن سَبْعَ سموات } توفيراً للمعاني .
ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه السلام ، وقد قصَّ الله خبرَهم في سورة الأنعام ( 76 ) في قوله : { فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي } الآيات ، ثم ظهر هذا الدين في سبأ ، عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل . ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر ، ويَظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا : ( لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر ) اهـ . ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهَوَّدُوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب . وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه ( شَمس ) وبه سموا ( عبدَ شمس ) ، وكذلك جعلهم من أسماء الشمس الإلهة ، قالت مَيَّة بنتُ أم عتبة :
تروَّحْنَا من اللَّعْبَاء عَصْراً *** فأعْجَلْنا الإِلهةَ أن تؤوبا
وكان الصنم الذي اسمه شمس يَعبده بنو تميم وضبة وَتَيْم وعُكْل وأُدّ .
وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر .
وفي « تلخيص التفسير » للكواشي : ( وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود للَّه كالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى بالعبادة ) وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب ، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر . وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم : صَبَأَ ، وكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالصابىء ، فإذا لم يكن النهي في قوله : { لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسسِ ولاَ للقَمَرِ } نهيَ إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر ، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما .
ووقوع قوله : { واسْجُدُوا لله الذِي خَلَقَهُنَّ } بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي ، ووقوع الإِثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإِيجاب ، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر كما تراه في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي :
تسيل على حد الظبات نفوسنا *** وليست على غير الظبات تسيل
فكأنه قيل : لا تسجدوا إلا لله ، أي دون الشمس والقمر .
فجملة { لا تَسْجدوا للشَّمس } إلى قوله : { تَعْبُدُونَ } معترضة بين جملة { وَمِن ءاياته الليَّلُ والنَّهَارُ } ، وبين جملة { فَإنْ استَكْبَرُوا } [ فصلت : 38 ] . وفي هذه الآية موضع سجود من سجود التلاوة ، فقال مالك وأصحابه عدا ابن وهب : السجود عند قوله تعالى : { إن كنتم إيَّاهُ تعبدون } وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وروي عن الشافعي . وقال أبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه وابنُ وهب : هي عند قوله : { وَهُمْ لا يَسْأمُونَ } [ فصلت : 38 ] ، وهو عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن آياته} أن يعرف التوحيد بصنعه وإن لم تروه.
{الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن} يعني الذي خلق هؤلاء الآيات.
{إن كنتم إياه تعبدون}، فسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يومئذ.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ومن حجج الله تعالى على خلقه ودلالته على وحدانيته، وعظيم سلطانه، اختلاف الليل والنهار، ومعاقبة كلّ واحد منهما صاحبه، والشمس والقمر، لا الشمس تدرك القمر "وَلا اللّيْلُ سابِقُ النّهارِ وكُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ"، لا تسجدوا أيها الناس للشمس ولا للقمر، فإنهما وإن جريا في الفلك بمنافعكم، فإنما يجريان به لكم بإجراء الله إياهما لكم طائعين له في جريهما ومسيرهما، لا بأنهما يقدران بأنفسهما على سير وجري دون إجراء الله إياهما وتسييرهما، أو يستطيعان لكم نفعا أو ضرّا، وإنما الله مسخرهما لكم لمنافعكم ومصالحكم، فله فاسجدوا، وإياه فاعبدوا دونها، فإنه إن شاء طمس ضوءهما، فترككم حيارَى في ظلمة لا تهتدون سبيلاً، ولا تبصرون شيئا. وقيل: "وَاسْجُدُوا لِلّهِ الّذِي خَلَقَهُنّ"...
وقوله: "إنْ كُنْتُمْ إيّاهُ تَعْبُدُونَ "يقول: إن كنتم تعبدون الله، وتذلون له بالطاعة وإن من طاعته أن تخلصوا له العبادة، ولا تشركوا في طاعتكم إياه وعبادتكموه شيئا سواه، فإن العبادة لا تصلح لغيره ولا تنبغي لشيء سواه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنّ} يقول: إن كنتم إياه تقصدون بعبادة هذه الأشياء فاسجدوا له واعبدوا، لما أمركم بالسجود له والعبادة.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
عدد آياته لتعبر فيها من صدق عن التوحيد بذكر {الليل والنهار}، وذكرهما يتضمن ما فيهما من القصر والطول والتداخل والاستواء في مواضع وسائر عبرهما، وكذلك الشمس والقمر متضمن عجائبهما وحكمة الله فيهما ونفعه عباده بهما.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته، تنبيها على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته، فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات، فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن، وقد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض، فبدأ هاهنا بذكر الفلكيات وهي الليل والنهار، وإنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيها على أن الظلمة عدم، والنور وجود، والعدم سابق على الوجود، فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء.
ولما بين أن الشمس والقمر محدثان، وهما دليلان على وجود الإله القادر قال: {لا تسجدوا للشمس ولا للقمر} يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله، والسجدة عبارة عن نهاية التعظيم فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه الآيات معروضة للأنظار، يراها العالم والجاهل. ولها في القلب البشري روعة مباشرة. ولو لم يعلم الإنسان شيئاً عن حقيقتها العلمية. فبينها وبين الكائن البشري صلة أعمق من المعرفة العلمية بينها وبينه هذا الاتصال في النشأة، وفي الفطرة، وفي التكوين. فهو منها وهي منه. تكوينه تكوينها، ومادته مادتها، وفطرته فطرتها، وناموسه ناموسها، وإلهه إلهها.. فهو من ثم يستقبلها بحسه العميق في هزة وإدراك مباشر لمنطقها العريق!
لهذا يكتفي القرآن غالبا بتوجيه القلب إليها، وإيقاظه من غفلته عنها، هذه الغفلة التي ترد عليه من طول الألفة تارة، ومن تراكم الحواجز والموانع عليه تارة. فيجلوها القرآن عنه، لينتفض جديداً حياً يقظاً يعاطف هذا الكون الصديق، ويتجاوب معه بالمعرفة القديمة العميقة الجذور.
وصورة من صور الانحراف تلك التي تشير إليها الآية هنا. فقد كان قوم يبالغون في الشعور بالشمس والقمر شعوراً منحرفاً ضالاً فيعبدونهما باسم التقرب إلى الله بعبادة أبهى خلائقه! فجاء القرآن ليردهم عن هذا الانحراف؛ ويزيل الغبش عن عقيدتهم المدخولة. ويقول لهم: إن كنتم تعبدون الله حقاً فلا تسجدوا للشمس والقمر.. (واسجدوا لله الذي خلقهن) فالخالق هو وحده الذي يتوجه إليه المخلوقون أجمعين. والشمس والقمر مثلكم يتوجهون إلى خالقهما فتوجهوا معهم إلى الخالق الواحد الذي يستحق أن تعبدوه. ويعيد الضمير عليهما مؤنثاً مجموعاً: (خلقهن) باعتبار جنسهما وأخواتهما من الكواكب والنجوم؛ ويتحدث عنهن بضمير المؤنث العاقل ليخلع عليهن الحياة والعقل، ويصورهن شخوصاً ذات أعيان!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {قُل أينَّكُم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين} عطف القصة على القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإِلهية، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله، انتقالاً في أفانين الاستدلال؛ فإنه انتقال من الاستدلال بذواتٍ من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات، فابتدىء ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله: {ومن ءاياته أنك ترى الأرض خاشعة} [فصلت: 39].
ويدل لهذا الانتقال أنه انتقل من أسلوب الغيبة من قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة} إلى قوله: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة} إلى أسلوب خطابهم رجوعاً إلى خطابهم الذي في قوله: {أينكم لتكفرون بالذي خلق الأرض} [فصلت: 9].
والآيات: الدلائل، وإضافتها إلى ضمير الله لأنها دليل على وحدانيته وعلى وجوده.
واختلافُ الليل والنهار آية من آيات القدرة التي لا يفعلها غير الله تعالى، فلا جرم كانت دليلاً على انفراده بالصنع فهو منفرد بالإِلهية.
والمراد بالشمس والقمر ابتداءً هنا حركتُهما المنتظمة المستمرة، وأمّا خلقهما فقد علم من خلق السماوات والأرض كما تقدم آنفاً في قوله: {فقضاهن سبع سموات}، فإن الشمس إحدى السماوات السبع والقمر تابع للشمس، ولم يُذكر ما يدل على بعض أحوال الشمس والقمر مثل طلُوع أو غروبٍ أو فَلَك أو نحو ذلك ليَكون صالحاً للاستدلال بأحوالهما وهو المقصود الأول، ولخلقهما تأكيد لما استفيد من قوله: {فقضاهن سَبْعَ سموات} توفيراً للمعاني.
ولما جرى الاعتبار بالشمس والقمر، وكان في الناس أقوام عبدوا الشمس والقمر وهم الصابئة ومنبعهم من العراق من زمن إبراهيم عليه السلام، وقد قصَّ الله خبرَهم في سورة الأنعام (76) في قوله: {فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي} الآيات، ثم ظهر هذا الدين في سبأ، عبدوا الشمس كما قصه الله في سورة النمل. ولم أقف على أن العرب في زمن نزول القرآن كان منهم من يعبد الشمس والقمر، ويَظهر من كلام الزمخشري أنه لم يقف على ذلك لقوله هنا: (لعل ناساً منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر) اهـ. ولكن وجود عبادة الشمس في اليمن أيام سبأ قبل أن يتهَوَّدُوا يقتضي بقاء آثاره من عبادة الشمس في بعض بلاد العرب. وقد ذكر من أصنام العرب صنم اسمه (شَمس) وبه سموا (عبدَ شمس)، وكذلك جعلهم من أسماء الشمس، وكان الصنم الذي اسمه شمس يَعبده بنو تميم وضبة وَتَيْم وعُكْل وأُدّ.
وكنت وقفت على أن بعض كنانة عبدوا القمر.
وفي « تلخيص التفسير» للكواشي: (وكان الناس يسجدون للشمس والقمر يزعمون أنهم يقصدون بذلك السجود للَّه كالصابئين فنهوا عن ذلك وأمروا أن يخصوه تعالى بالعبادة) وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصابئة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر. وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم: صَبَأَ، وكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالصابئ، فإذا لم يكن النهي في قوله: {لاَ تَسْجُدُوا للشَّمْسِ ولاَ للقَمَرِ} نهيَ إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما.
ووقوع قوله: {واسْجُدُوا لله الذِي خَلَقَهُنَّ} بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي، ووقوع الإِثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإِيجاب، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر، فكأنه قيل: لا تسجدوا إلا لله، أي دون الشمس والقمر.
فجملة {لا تَسْجدوا للشَّمس} إلى قوله: {تَعْبُدُونَ} معترضة بين جملة {وَمِن ءاياته الليَّلُ والنَّهَارُ}، وبين جملة {فَإنْ استَكْبَرُوا} [فصلت: 38].