مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمِنۡ ءَايَٰتِهِ ٱلَّيۡلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُۚ لَا تَسۡجُدُواْ لِلشَّمۡسِ وَلَا لِلۡقَمَرِ وَٱسۡجُدُواْۤ لِلَّهِۤ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمۡ إِيَّاهُ تَعۡبُدُونَ} (37)

قوله تعالى : { ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون * فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون * ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير } .

اعلم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن أحسن الأعمال والأقوال هو الدعوة إلى الله تعالى أردفه بذكر الدلائل الدالة على وجود الله وقدرته وحكمته ، تنبيها على أن الدعوة إلى الله تعالى عبارة عن تقرير الدلائل الدالة على ذات الله وصفاته ، فهذه تنبيهات شريفة مستفادة من تناسق هذه الآيات ، فكان العلم بهذه اللطائف أحسن علوم القرآن ، وقد عرفت أن الدلائل الدالة على هذه المطالب العالية هي العالم بجميع ما فيه من الأجزاء والأبعاض ، فبدأ هاهنا بذكر الفلكيات وهي الليل والنهار وإنما قدم ذكر الليل على ذكر النهار تنبيها على أن الظلمة عدم ، والنور وجود ، والعدم سابق على الوجود ، فهذا كالتنبيه على حدوث هذه الأشياء ، وأما دلالة الشمس والقمر والأفلاك وسائر الكواكب على وجود الصانع ، فقد شرحناها في هذا الكتاب مرارا ، لاسيما في تفسير قوله { الحمد لله رب العالمين } وفي تفسير قوله { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } .

ولما بين أن الشمس والقمر محدثان ، وهما دليلان على وجود الإله القادر قال : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } يعني أنهما عبدان دليلان على وجود الإله ، والسجدة عبارة عن نهاية التعظيم فهي لا تليق إلا بمن كان أشرف الموجودات ، فقال : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر } لأنهما عبدان مخلوقان { واسجدوا لله } الخالق القادر الحكيم ، والضمير في قوله { خلقهن } لليل والنهار والقمر ، لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث ، يقال للأقلام بريتها وبريتهن .

ولما قال : { ومن ءاياته } كن في معنى الإناث فقال : { خلقهن } وإنما قال : { إن كنتم إياه تعبدون } لأن ناسا كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن لا يسجدوا إلا لله الذي خلق الأشياء ، فإن قيل إذا كان لا بد في الصلاة من قبلة معينة ، فلو جعلنا الشمس قبلة معينة عند السجود كان ذلك أولى ، قلنا الشمس جوهر مشرق عظيم الرفعة عالي الدرجة ، فلو أذن الشرع في جعلها قبلة في الصلوات ، فعند اعتياد السجود إلى جانب الشمس ربما غلب على الأوهام أن ذلك السجود للشمس لا لله ، فلأجل الخوف من هذا المحذور نهى الشارع الحكيم عن جعل الشمس قبلة للسجود ، بخلاف الحجر المعين فإنه ليس فيه ما يوهم الإلهية ، فكان المقصود من القبلة حاصلا والمحذور المذكور زائلا فكان هذا أولى ، واعلم أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن موضع السجود هو قوله { تعبدون } لأجل أن قوله { واسجدوا لله } متصل به ، وعند أبي حنيفة هو قوله { وهم لا يسئمون } لأن الكلام إنما يتم عنده .