قوله تعالى : { فإنهم عدو لي } يعني : أعدائي ، ووحده :على معنى أن كل معبود لكم عدو لي . فإن قيل : كيف وصف الأصنام بالعداوة وهي جمادات ؟ قيل : معناه فإنهم عدو لي لو عبدتهم يوم القيامة ، كما قال تعالى : { سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } وقال الفراء : هو من المقلوب ، أراد : فإني عدو لهم ، لأن من عاديته فقد عاداك . وقيل : فإنهم عدو لي على معنى إني لا أتوهم ولا أطلب من جهتهم نفعاً ، كما لا يتولى العدو ، ولا يطلب من جهته النفع . قوله : { إلا رب العالمين } اختلفوا في هذا الاستثناء ، قيل : هو استثناء منقطع ، كأنه قال : فإنهم عدو لي لكن رب العالمين وليي . وقيل : إنهم كانوا يعبدون الأصنام مع الله ، فقال إبراهيم : كل من تعبدون أعدائي إلا رب العالمين . وقيل : إنهم غير معبود لي إلا رب العالمين ، فإني أعبده . وقال الحسين بن الفضل : معناه إلا من عبد رب العالمين .
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } فليضروني بأدنى شيء من الضرر ، وليكيدوني ، فلا يقدرون .
{ إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } هو المنفرد بنعمة الخلق ، ونعمة الهداية للمصالح الدينية والدنيوية .
ثم خصص منها بعض الضروريات فقال : { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } فهذا هو وحده المنفرد بذلك ، فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة ، وتترك هذه الأصنام ، التي لا تخلق ، ولا تهدي ، ولا تمرض ، ولا تشفي ، ولا تطعم ولا تسقي ، ولا تميت ، ولا تحيي ، ولا تنفع عابديها ، بكشف الكروب ، ولا مغفرة الذنوب .
فهذا دليل قاطع ، وحجة باهرة ، لا تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها ، فدل على اشتراككم في الضلال ، وترككم طريق الهدى والرشد . قال الله تعالى : { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } الآيات .
وأمام هذا التقليد الأعمى ، نرى إبراهيم - عليه السلام - يعلن عداوته لهم ولمعبوداتهم الباطلة ، ويجاهرهم بأن عبادته إنما هى لله - تعالى - وحده فيقول :
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين } .
أى : قال لهم إبراهيم على سبيل الإنكار والتأنيب : أفرأيتم وشاهدتم هذه الأصنام التى عبدتموها أنتم وآباؤكم الأقدمون من دون الله - تعالى - إنها عدو لى لأن عبادتها باطلة لكن الله - تعالى - رب العالمين هو وليى وصاحب الفضل على فى الدنيا والآخرة ، فلذا أعبده وحده .
فقوله { إِلاَّ رَبَّ العالمين } . استثناء منقطع من ضمير { إِنَّهُمْ } .
قال صاحب الكشاف : وإنما قال : { عَدُوٌّ لي } تصويرا للمسألة فى نفسه ، على معنى : أنى فكرت فى أمرى فرأيت عبادتى لها عبادة للعدو فاجتنبتها وآثرت عبادة الذى الخير كله منه ، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسها أولا ، وبنى عليها تدبير أمره ، لينظروا فيقولوا : ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه ، ليكون أدعى لهم إلى القبول . ولو قال : فإنهم عدو لكم لم يكن بتلك المثابة ، ولأنه دخل فى باب من التعريض ، وقد يبلغ التعريض للمنصوح ما لا يبلغه التصريح ، لأنه يتأمل فيه ، فربما قاده التأمل إلى التقبل ومنه ما يحكى عن الشافعى - رحمه الله - : أن رجلا واجهه بشىء ، فقال : لو كنتُ بحيث أنت ، لاحتجتُ إلى الأدب . . . وسمع رجل ناسا يتحدثون فى الحِجْر فقال : ما هو بيتى ولا بيتكم . .
وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم - على حلمه وأناته - إلا أن يهزهم بعنف ، ويعلن عداوته للأصنام ، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات !
( قال : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون ? فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) . .
وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون ، أن يفارقهم بعقيدته ، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم ، هم وآباؤهم - وهم آباؤه - الأقدمون !
وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم ؛ وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة ، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان . وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون .
واستثنى إبراهيم ( رب العالمين )من عدائه لما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون : ( فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ) . . فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبد الله ، قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف ؛ وقد يكون من عبد الله ولكن أشرك معه آلهة أخرى مدعاة . فهو الاحتياط إذن في القول ، والدقة الواعية في التعبير ، الجديران بإبراهيم - عليه السلام - في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق .
فعند ذلك قال لهم إبراهيم أي {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} : إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير ، فَلْتَخْلُص إلي بالمساءة ، فإني عدو لها لا أباليها ولا أفكر فيها . وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن نوح ، عليه السلام : { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ } [ يونس : 71 ] وقال هود ، عليه السلام : { إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ . إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 54 - 56 ] وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم وقال : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } [ الأنعام : 81 ] وقال تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } [ الممتحنة : 4 ] وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الزخرف : 26 - 28 ] يعني : لا إله إلا الله .
وعبر عن بغضته واطراحه لكل معبود سوى الله تعالى بالعداوة إذ هي تقتضي التغيير ومحو الرسم ، وقيل في الكلام قلب لأن الأصنام لا تعادي وإنما هو عاداها{[8950]} ، وقوله { إلا رب العالمين } قالت فرقة هو استثناء متصل لأن في بغضته الأقدمين من قد عبد الله ، وقالت فرقة هو استثناء منقطع لأنه إنما أرد عبادة الأوثان من كل قرن منهم ، ولفظة { عدو } تقع للجميع والمفرد والمؤنث والمذكر .
الفاء في قوله : { فإنهم عدو لي } للتفريع على ما اقتضته جملة : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } من التعجيب من شأن عبادتهم إياها . ويجوز جعل الرؤية بصرية لها مفعول واحد وجَعْل الاستفهام تقريرياً والكلام مستعمل في التنبيه لشيء يريد المتكلم الحديث عنه ليعيه السامع حق الوعي ، أو فاء فصيحة بتقدير : إن رأيتموهم فاعلموا أنهم عدُوّ لي . وهذا الوجه أظهر .
والاستثناء في قوله : { إلا رب العالمين } منقطع . و { إلا } بمعنى ( لكن ) إذا كان ربّ العالمين غير مشمول لعبادتهم إذ الظاهر أنهم ما كانوا يعترفون بالخالق ولم يكونوا يجعلون آلهتهم شركاء لله كما هو حال مشركي العرب ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { قال بل فعله كبيرهم هذا } [ الأنبياء : 63 ] فهو الصنم الأعظم عندهم ، وإلى قوله : { قال أتحاجّوني في الله وقد هدان } [ الأنعام : 80 ] . ويظهر أن الكلدانيين ( قوم إبراهيم ) لم يكونوا يؤمنون بالخالق الذي لا تدركه الأبصار . وكان أعظم الآلهة عندهم هو كوكبَ الشمس والصنم الذي يمثل الشمس هو ( بعل ) ، فوظيفة الأصنام عندهم تدبير شؤون الناس في حياتهم . وأما الإيجاد والإعدام فكانوا من الذين يقولون { وما يُهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] وأن الإيجاد من أعمال التناسل وهم في غفلة عن سر تكوين تلك النظم الحيوانية وإيداعها فيها . وقد يكونون معترفين برب عظيم خالق للأكوان وإنما جعلوا الأصنام شركاء له في التصرف في نظام تلك المخلوقات كما كان حال الإشراك في العرب فيكون الاستثناء متصلاً لأنَّ الله من جملة معبودِيهم ، أي إلا الرب الذي خلق العوالم . وتقدم ذكر أصنام قوم إبراهيم في سورة الأنبياء . وانظر ما يأتي في سورة العنكبوت .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]
يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أفرأيتم أيها القوم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام أنتم وآباؤكم الأقدمون، يعني بالأقدمين: الأقدمين من الذين كان إبراهيم يخاطبهم، وهم الأوّلون قبلهم ممن كان على مثل ما كان عليه الذين كلمهم إبراهيم من عبادة الأصنام، "فإنهم عدوّ لي إلا ربّ العالمين". يقول قائل: وكيف يوصف الخشب والحديد والنحاس بعداوة ابن آدم؟ فإن معنى ذلك: فإنهم عدوّ لي لو عبدتهم يوم القيامة، كما قال جلّ ثناؤه "واتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّا، كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا"... ومعنى الكلام: أفرأيتم كلّ معبود لكم ولآبائكم، فإني منه بريء لا أعبده، إلا ربّ العالمين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]
قال بعضهم: إنهم وآباءهم الذين عبدوا الأصنام من قبل عدو له {إلا رب العالمين} استثنى رب العالمين؛ يقول: هم عدو لي، وأنا بريء منهم إلا من يكون فيكم من يعبد رب العالمين؛ فيكون على الإضمار، أي فإنهم جميعا عدو لي إلا من عبد رب العالمين. وقال بعضهم: يقول: إن العابدين والمعبودين كلهم {عدو لي إلا رب العالمين} أي إلا المعبود بالحقيقة الذي يستحق العبادة، فإنه وليي. وقال بعضهم: ليس على الاستثناء، ولكن على الابتداء؛ كأنه قال: أنتم وآباؤكم الأقدمون عدو لي.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ذَكَرَهم بأقلِّ عبارة فلم يقل: فإنهم أعداءٌ لي، بل وَصَفَهم بالمصدر الذي يصلح أن يوصَفَ به الواحد والجماعة فقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّى}. ثم قال: {إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}، وهذا استثناء منقطع، وكأنه يضرب بلطفٍ عن ذِكْرِهم صفحاً حتى يتوصَّلَ إلى ذكر الله، ثم أخذ في شرح وصفه كأنه لا يكاد يسكت، إذ مضى يقول: والذي... والذي... والذي..، ومن أمارات المحبة كَثْرَةُ ذِكْرِ محبوبك، والإعراضُ عن ذكرِ غيره، فتَنَزُّهُ المحبين بتقلُّبِهم في رياض ذِكْرِ محبوبهم، والزهَّادُ يعددون أورادهم، وأَربابُ الحوائج يعددون مآربَهم، فيطنبون في دعائهم، والمحبون يُسْهِبونَ في الثناء على محبوبهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وإنما قال: {عَدُوٌّ لِي} تصويراً للمسألة في نفسه، على معنى: أني فكرت في أمرى فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ، فاجتنبتها وآثرت عبادة من الخير كله منه، وأراهم بذلك أنها نصيحة نصح بها نفسه أوّلاً وبني عليها تدبير أمره، لينظروا فيقولوا: ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، وما أراد لنا إلا ما أراد لروحه، ليكون ادعى لهم إلى القبول، وأبعث على الاستماع منه. ولو قال: فإنه عدوّ لكم لم يكن بتلك المثابة، ولأنّه دخل في باب من التعريض، وقد يبلغ التعريض للنصوح ما لا يبلغه التصريح؛ لأنه يتأمّل فيه، فربما قاده التأمّل إلى التقبل...
{إِلاَّ رَبَّ العالمين} استثناء منقطع، كأنه قال: ولكن رب العالمين.
أما قوله: {فإنهم عدو لي إلا رب العالمين} ففيه أسئلة:
السؤال الأول: كيف يكون الصنم عدوا مع أنه جماد؟
أحدها: أنه تعالى قال في سورة مريم في صفة الأوثان {كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا} فقيل في تفسيره إن الله يحيي ما عبدوه من الأصنام حتى يقع منهم التوبيخ لهم والبراءة منهم، فعلى هذا الوجه أن الأوثان ستصير أعداء لهؤلاء الكفار في الآخرة فأطلق إبراهيم عليه السلام لفظ العداوة عليهم على هذا التأويل.
وثانيها: أن الكفار لما عبدوها وعظموها ورجوها في طلب المنافع ودفع المضار نزلت منزلة الأحياء العقلاء في اعتقاد الكفار، ثم إنها صارت أسبابا لانقطاع الإنسان عن السعادة ووصوله إلى الشقاوة، فلما نزلت هذه الأصنام منزلة الأحياء وجرت مجرى الدافع للمنفعة والجالب للمضرة لا جرم جرت مجرى الأعداء، فلا جرم أطلق إبراهيم عليه السلام عليها لفظ العدو.
وثالثها: المراد في قوله: {فإنهم عدو لي} عداوة من يعبدها، فإن قيل: فلم لم يقل إن من يعبد الأصنام عدو لي ليكون الكلام حقيقة؟ جوابه: لأن الذي تقدم ذكره ما عبدوه دون العابدين.
السؤال الثاني: لم قال: {فإنهم عدو لي} ولم يقل فإنها عدو لكم؟
جوابه: أنه عليه السلام صور المسألة في نفسه على معنى إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدو فاجتنبتها، وأراهم أنها نصيحة نصح بها نفسه، فإذا تفكروا قالوا ما نصحنا إبراهيم إلا بما نصح به نفسه، فيكون ذلك أدعى للقبول.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وعدو: يكون للمفرد والجمع، كما قال: {هم العدو فاحذرهم} قيل: شبه بالمصدر، كالقبول والولوع.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]
أي: إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير، فَلْتَخْلُص إلي بالمساءة، فإني عدو لها لا أباليها ولا أفكر فيها. وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن نوح، عليه السلام: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] وقال هود، عليه السلام: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 -56]
وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم وقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26- 28] يعني: لا إله إلا الله...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فإنهم} أي فتسبب عن رؤيتكم ووصفكم لهم بما ذكرتم أني أخبركم إخباراً مؤكداً أنهم. ولما كانت صيغة فعول للمبالغة، أغنت في العدو والصديق عن صيغة الجمع ولا سيما وهي شبيهة بالمصادر كالقبول والصهيل، فقال مخبراً عن ضمير الجمع: {عدو لي} أي أناصفهم بالسوء وأعاملهم في إبطالهم ومحقهم معاملة الأعداء وكل من عبدهم كما قال في الآية الأخرى {لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين} [الأنبياء: 54]، {أف لكم ولما تعبدون من دون الله} [الأنبياء: 57] و {تالله لأكيدن أصنامكم} [الأنبياء: 67]. ولما كانوا هم مشركين، وكان في آبائهم الأقدمين من عبد الله وحده. قال: {إلا رب العالمين} أي مدبر هذه الأكوان كلها -كما قال موسى عليه السلام- لأن ذلك أشهر الأوصاف وأظهرها، فإنه ليس بعدوي، بل هو وليّي ومعبودي؛
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]
وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم -على حلمه وأناته- إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات! (قال: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين).. وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم -وهم آباؤه- الأقدمون! وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم؛ وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون. واستثنى إبراهيم (رب العالمين) من عدائه لما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين).. فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبد الله، قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف؛ وقد يكون من عبد الله ولكن أشرك معه آلهة أخرى مدعاة. فهو الاحتياط إذن في القول، والدقة الواعية في التعبير، الجديران بإبراهيم -عليه السلام- في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء في قوله: {فإنهم عدو لي} للتفريع على ما اقتضته جملة: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} من التعجيب من شأن عبادتهم إياها. ويجوز جعل الرؤية بصرية لها مفعول واحد وجَعْل الاستفهام تقريرياً والكلام مستعمل في التنبيه لشيء يريد المتكلم الحديث عنه ليعيه السامع حق الوعي، أو فاء فصيحة بتقدير: إن رأيتموهم فاعلموا أنهم عدُوّ لي. وهذا الوجه أظهر. والاستثناء في قوله: {إلا رب العالمين} منقطع. و {إلا} بمعنى (لكن) إذا كان ربّ العالمين غير مشمول لعبادتهم إذ الظاهر أنهم ما كانوا يعترفون بالخالق ولم يكونوا يجعلون آلهتهم شركاء لله كما هو حال مشركي العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قال بل فعله كبيرهم هذا} [الأنبياء: 63] فهو الصنم الأعظم عندهم،... وقد يكونون معترفين برب عظيم خالق للأكوان وإنما جعلوا الأصنام شركاء له في التصرف في نظام تلك المخلوقات كما كان حال الإشراك في العرب فيكون الاستثناء متصلاً لأنَّ الله من جملة معبودِيهم، أي إلا الرب الذي خلق العوالم. وتقدم ذكر أصنام قوم إبراهيم في سورة الأنبياء. وانظر ما يأتي في سورة العنكبوت.