ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة ، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يتلو القرآن . ثم يتفرقون حواليه جماعات . ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون :
فما للذين كفروا قبلك مهطعين ? عن اليمين وعن الشمال عزين ? . .
المهطع هو الذي يسرع الخطى مادا عنقه كالمقود . وعزين جمع عزة كفئة وزنا ومعنى . . وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة . وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها . وتعجب منهم . وتساؤل عن هذا الحال منهم ! وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا ، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون !
{ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } قال : العزين : العُصَب من الناس ، عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار . حدثنا أبو عامر ، حدثنا قرة ، عن الحسن{[29334]} في قوله : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } متفرقين ، يأخذون يمينًا وشمالا يقولون : ما قال هذا الرجل ؟
وقال قتادة : { مُهْطِعِينَ } عامدين ، { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ } أي : فِرَقًا حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يرغبون في كتاب الله ، ولا في نبيه صلى الله عليه وسلم .
وقال الثوري ، وشعبة ، وعيسى بن يونس وعَبْثَر بن القاسم{[29335]} ومحمد بن فضيل ، ووَكِيع ، ويحيى القطان ، وأبو معاوية ، كلهم عن الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن تميم بن طرفة ، عن جابر بن سمرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عليهم{[29336]} وهم حلق ، فقال : " ما لي أراكم عزين ؟ "
رواه أحمد ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، من حديث الأعمش ، به{[29337]}
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا سفيان ، عن عبد الملك بن عمير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حِلَق حِلق ، فقال : " ما لي أراكم عزين ؟ " {[29338]} .
وهذا إسناد جيد ، ولم أره في شيء من الكتب الستة من هذا الوجه .
و : { عزين } جمع عزة ، قال بعض النحاة أصلها عزوة ، وقال آخرون منهم : أصلها عزهة ، وجمعت بالواو والنون عوضاً مما انحذف منها نحو سنة وسنون ، ومعنى العزة : الجمع اليسير فكأنهم كانوا ثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة ومنه قول الراعي : [ الكامل ]
أخليفة الرحمن إن عشيرتي*** أمس سراتهم إليك عزينا{[11335]}
وقال أبو هريرة : خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم حلق متفرقون فقال : «ما لي أراكم عزين »{[11336]}
وموقع قوله : { عن اليمين وعن الشمال } مثل موقع { قبلك } وموقع { مهطعين . } والمقصود : كثرة الجهات ، أي واردين إليك .
والتعريف في { اليمين } و { الشمال } تعريف الجنس أو الألف واللام عوض عن المضاف إليه .
والمقصود من ذكر اليمين والشمال : الإِحاطة بالجهات فاكتفي بذكر اليمين والشمال ، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حلولهما ، ومثله قول قَطَريّ بن الفُجَاءَةِ :
فلقد أراني للرماح دَريئَةً *** مِن عَنْ يميني مَرّة وأَمامي
و { عزِين } حال من { الذين كفروا } . و { عزين } : جمع عِزَة بتخفيف الزاي ، وهي الفِرقة من النّاس ، اسم بوزن فِعْلَة . وأصله عِزوة بوزن كِسوة ، وليست بوزن عِدَة . وجرى جمع عِزة على الإِلحاق بجمع المذكر السالم على غير قياس وهو من باب سَنَة من كل اسم ثلاثي حذفت لاَمه وعُوض عنها هاء التأنيث ولم يكسّر مثل عِضَة ( للقطعة ) .
وهذا التركيب في قوله تعالى : { فما للذين كفروا قِبَلك مهطعين } إلى قوله { جنة نعيم } يجوز أن يكون استعارة تمثيلية شبه حالهم في إسراعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال من يُظن بهم الاجتماع لطلب الهدى والتحصيل على المغفرة ليدخلوا الجنة لأن الشأن أن لا يلتف حول النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ طالبوا الاهتداء بهديه .
والاستفهام على هذا مستعمل في أصل معناه لأن التمثيلية تجري في مجموع الكلام مع بقاء كلماته على حقائقها .
ويجوز أن يكون الكلام استفهاماً مستعملاً في التعجيب من حال إسراعهم ثم تكذيبهم واستهزائهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني حلقا حلقا جلوسا لا يدنون من النبي صلى الله عليه وسلم فينتفعون بمجلسه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
عن يمينك يا محمد، وعن شمالك متفرّقين حلقا ومجالس، جماعة جماعة، معرضين عنك وعن كتاب الله.
عن ابن عباس، قال: العزين: العصب من الناس عن يمين وشمال، معرضين عنه، يستهزئون به...
قال ابن زيد: العزين: المجلس الذي فيه الثلاثة والأربعة، والعزين: الحلق المتفرّقة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{عزين} جمع عزة، ومعنى العزة: الجمع اليسير.
وقال أبو هريرة: خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم حلق متفرقون فقال: «ما لي أراكم عزين».
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الذي يتطير فيراعي الأيامن والأشائم على ما تقدم في الصافات، لا يترك ذلك إلا في أمر أدهش عقله وأطار لبه، فلم يدعه يتأمل، قال مشيراً إلى شدة اعتنائهم بهذا الإهطاع مع عدم التحفظ من شيء: {عن} أي متجاوزين إليك كل مكان كان عن جهة {اليمين} أي منك حيث يتمنون به {وعن الشمال} أي منك وإن كانوا يتشاءمون به {عزين} أي حال كونهم جماعات جماعات وخلقاً خلقاً متفرقين فرقاً شتى أفواجاً يتمهلون ليأتوا جميعاً جمع عزة، وأصلها عزوة لأن كل فرقة تعتزي إلى غير ما تعتزي إليه الأخرى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 36]
ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] يتلو القرآن. ثم يتفرقون حواليه جماعات. ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون: فما للذين كفروا قبلك مهطعين؟ عن اليمين وعن الشمال عزين؟.. المهطع هو الذي يسرع الخطى مادا عنقه كالمقود. وعزين جمع عزة كفئة وزنا ومعنى.. وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة. وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها. وتعجب منهم. وتساؤل عن هذا الحال منهم! وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{عن اليمين وعن الشمال} والمقصود: كثرة الجهات، أي واردين إليك..
والمقصود من ذكر اليمين والشمال: الإِحاطة بالجهات، فاكتفي بذكر اليمين والشمال، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حلولهما،
وهذا التركيب في قوله تعالى: {فما للذين كفروا قِبَلك مهطعين} إلى قوله {جنة نعيم} يجوز أن يكون استعارة تمثيلية شبه حالهم في إسراعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال من يُظن بهم الاجتماع لطلب الهدى والتحصيل على المغفرة ليدخلوا الجنة لأن الشأن أن لا يلتف حول النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ طالبوا الاهتداء بهديه. والاستفهام على هذا مستعمل في أصل معناه لأن التمثيلية تجري في مجموع الكلام مع بقاء كلماته على حقائقها. ويجوز أن يكون الكلام استفهاماً مستعملاً في التعجيب من حال إسراعهم ثم تكذيبهم واستهزائهم.