ثم استثنى فقال :{ إلا الذين آمنوا } فإنهم لا يردون إلى النار . ومن قال بالقول الأول قال : رددناه أسفل سافلين ، فزالت عقولهم وانقطعت أعمالهم ، فلا يكتب لهم حسنة إلا الذين آمنوا . { وعملوا الصالحات } فإنه يكتب لهم بعد الهرم والخرف ، مثل الذين كانوا يعملون في حال الشباب والصحة . قال ابن عباس : هم نفر ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى عذرهم . فأخبر أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم . قال عكرمة : لم يضر هذا الشيخ كبره إذ ختم الله له بأحسن ما كان يعمل . وروى عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال : { إلا الذين قرؤوا القرآن } وقال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر . { فلهم أجر غير ممنون } غير مقطوع ، لأنه يكتب له كصالح ما كان يعمل . قال الضحاك : أجر بغير عمل .
ولهذا قال : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . . } .
وعلى هذا الرأى - أيضا - يكون المردودون إلى " أسفل سافلين " أي : إلى النار ، هم بعض أفراد جنس الإِنسان ، وهم الكفار ، والفاسقون عن أمره - تعالى - .
ومنها : أن المراد بالرد إلى أسفل سافلين هنا : الانحراف والارتداد عن الفطرة التى فطر الله - تعالى - الناس عليها ، بأن يعبد الإِنسان مخلوقاً مثله ، ويترك عبادة خالقه ، ويطيع نفسه وشهواته وهواه . . ويترك طاعة ربه - عز وجل - .
وقد فصل الأستاذ الإِمام هذا المعنى فقال ما ملخصه : " أقسم - سبحانه - أنه قوم الإِنسان أحسن تقويم ، وركبه أحسن تركيب ، وأكد - سبحانه - ذلك بالقسم ؛ لأن الناس بسبب غفلتهم عما كرمهم الله به ، صاروا كأنهم ظنوا أنفسهم كسائر أنواع العجماوات ، يفعلون كما تفعل ، لا يمنعهم حياء ولا تردهم حشمة . فانحطت بذلك نفوسهم عن مقامها ، الذى كان لها بمقتضى الفطرة . . فهذا قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } ، أي : صيرناه أسفل من كثير من الحيوانات التى كانت أسفل منه ، لأن الحيوان المفترس - مثلاً - إنما يصدر فى عمله عن فطرته التى فطر عليها ، لم ينزل عن مقامه ، ولم ينحط عن منزلته فى الوجود .
أما الإِنسان فإنه بإهماله عقله ، وجهله بما ينبغى أن يعمله لتوفير سعادته وسعادة إخوانه ، ينقلب أرذل من سائر أنواع الحيوان ، ولطالما قلت : " إذا فسد الإِنسان فلا تسل عما يصدر عنه من هذيان أو عدوان " .
والذى يتأمل الرأي الثاني والثالث يرى أن بينهما تلازماً ؛ لأن الانحراف عن الفطرة السوية يؤدىي إلى الدخول فى النار وبئس القرار ، وهذان الرأيان أولى بالقبول ؛ لأن الاستثناء فى قوله - تعالى - بعد ذلك : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } يؤيد ذلك ، إذ المعنى عليها : لقد خلقنا الإِنسان فى أحسن تقويم ، ثم رددناه إلى النار بسبب انحرافه عن الفطرة ، وإيثاره الغي على الرشد ، والكفر على الإِيمان .
إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وساروا على مقتضى فطرتهم ، فأخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة . . فلهم أجر غير مقطوع عنهم أو غير ممنون به عليهم ، بل هم قد اكتسبوا هذا الأجر الدائم العظيم ، بسبب إيمانهم وعملهم الصالح .
قال الآلوسى ما ملخصه : قوله : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } ، " ثم " هنا للتراخى الزمانى أو الرتبي ، والرد يجوز أن يكون بمعنى الجعل ، فينصب مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر . فأسفل مفعول ثان ، والمعنى : ثم جعلناه من أهل النار ، الذين هم أقبح ، وأسفل من كل سافل . . ويجوز أن يكون الرد بمعناه المعروف ، وأسفل منصوب بنزع الخافض .
أي : رددناه إلى أسفل الأمكنة السافلة وهو جهنم . .
وقوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } استثناء متصل من ضمير " رددناه العائد على الإِنسان ، فإنه فى معنى الجمع ، فالمؤمنون لا يردون أسفل سافلين يوم القيامة ، بل يزدادون بهجة إلى بهجتهم . وحسنا على حسنهم . . " .
( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) . . فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة ، ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح ، ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها ، حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال . ( فلهم أجر غير ممنون )دائم غير مقطوع .
فأما الذين يرتكسون بفطرتهم إلى أسفل سافلين ، فيظلون ينحدرون بها في المنحدر ، حتى تستقر في الدرك الأسفل . هناك في جهنم ، حيث تهدر آدميتهم ، ويتمحضون للسفول !
فهذه وتلك نهايتان طبيعيتان لنقطة البدء . . إما استقامة على الفطرة القويمة ، وتكميل لها بالإيمان ، ورفع لها بالعمل الصالح . . فهي واصلة في النهاية إلى كمالها المقدر في حياة النعيم . . وإما انحراف عن الفطرة القويمة ، واندفاع مع النكسة ، وانقطاع عن النفخة الإلهية . . فهي واصلة في النهاية إلى دركها المقرر في حياة الجحيم .
ومن ثم تتجلى قيمة الإيمان في حياة الإنسان . . إنه المرتقى الذي تصل فيه الفطرة القويمة إلى غاية كمالها . إنه الحبل الممدود بين الفطرة وبارئها . إنه النور الذي يكشف لها مواقع خطاها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين .
وحين ينقطع هذا الحبل ، وحين ينطفئ هذا النور ، فالنتيجة الحتمية هي الارتكاس في المنحدر الهابط إلى أسفل سافلين ، والانتهاء إلى إهدار الآدمية كلية ، حين يتمحض الطين في الكائن البشري ، فإذا هو وقود النار مع الحجارة سواء بسواء !
استثناء متصل من عموم الإِنسان فلما أخبر عن الإِنسان بأنه ردّ أسفل سافلين ثم استثني من عمومه الذين آمنوا بقي غير المؤمنين في أسفل سافلين .
والمعنى : أن الذين آمنوابعد أن ردوا أسفل سافلين أيام الإِشراك صاروا بالإِيمان إلى الفطرة التي فطر الله الإِنسان عليها فراجعوا أصلهم إلى أحسن تقويم .
وعُطف { وعملوا الصالحات } لأن عمل الصالحات من أحسن التقويم بعد مجيء الشريعة لأنها تزيد الفطرة رسوخاً وينسحب الإِيمان على الأخلاق فيردها إلى فضلها ثم يهديها إلى زيادة الفضائل من أحاسنها ، وفي الحديث : « إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق » .
فكان عطف { وعملوا الصالحات } للثناء على المؤمنين بأن إيمانهم باعث لهم على العمل الصالح وذلك حال المؤمنين حين نزول السورة فهذا العطف عطف صفة كاشفة .
وليس لانقطاع الاستثناء هنا احتمال لأن وجود الفاء في قوله : { فلهم أجر غير ممنون } يأباه كل الإِبايَة .
وفُرع على معنى الاستثناء وهو أنهم ليسوا ممن يرد أسفل سافلين الإِخبارُ بأن لهم أجراً عظيماً لأن الاستثناء أفاد أنهم ليسوا بأسفل سافلين فأريد زيادة البيان لفضلهم وما أعد لهم .
والممنون : الذي يُمنّ على المأجُور به ، أي لهم أجر لا يشوبه كدر ، ولا كدر أن يمنّ على الذي يعطاه بقول : هذا أجرك ، أو هذا عطاؤك ، فالممنون مَفْعول مَنّ عليه ، ويجوز أن يكون مفعولاً من مَنَّ الحبلَ ، إذا قطعه فهو منين ، أي مقطوع أو موشك على التقطع .