31- اتخذوا رجال دينهم أرباباً ، يشرعون لهم ، ويكون كلامهم ديناً ، ولو كان يخالف قول رسولهم ، فاتبعوهم في باطلهم ، وعبدوا المسيح ابن مريم ، وقد أمرهم الله في كتبه على لسان رسله ألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً ، لأنه لا يستحق العبادة في حكم الشرع والعقل إلا الإله الواحد ، تنزه الله عن الإشراك في العبادة والخلق والصفات .
قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا } ، أي : علماءهم وقراءهم ، ولأحبار : العلماء ، وأحدها حبر ، وحبر بكسر الحاء وفتحها ، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع فإن قيل : إنهم لم يعبدوا الأحبار والرهبان ؟ قلنا : معناه أنهم أطاعوهم في معصية الله واستحلوا ما أحلوا وحرموا ما حرموا ، فاتخذوهم كالأرباب . روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال : " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى عنقي صليب من ذهب فقال لي ياعدي اطرح هذا الوثن من عنقك ، فطرحته ثم انتهيت إليه وهو يقرأ : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ، حتى فرغ منها ، قلت له : إنا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ قال قلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم " . قال عبد الله بن المبارك :
وهل بدل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها
قوله تعالى : { والمسيح ابن مريم } ، أي : اتخذوه إلها .
قوله تعالى : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون* }
وهذا -وإن كان يستغرب على أمة كبيرة كثيرة ، أن تتفق على قول- يدل على بطلانه أدنى تفكر وتسليط للعقل عليه ، فإن لذلك سببا وهو أنهم : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ } وهم علماؤهم { وَرُهْبَانَهُمْ } أي : العُبَّاد المتجردين للعبادة .
{ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه ، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه ، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها .
وكانوا أيضا يغلون في مشايخهم وعبادهم ويعظمونهم ، ويتخذون قبورهم أوثانا تعبد من دون اللّه ، وتقصد بالذبائح ، والدعاء والاستغاثة .
{ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } اتخذوه إلها من دون اللّه ، والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة رسله فما { أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } فيخلصون له العبادة والطاعة ، ويخصونه بالمحبة والدعاء ، فنبذوا أمر اللّه وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانا .
{ سُبْحَانَهُ } وتعالى { عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تنزه وتقدس ، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم ، فإنهم ينتقصونه في ذلك ، ويصفونه بما لا يليق بجلاله ، واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه ، مما ينافي كماله المقدس .
وقوله - سبحانه { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ } بيان للون آخر من ألوان انحراف اليهود والنصارى عن الحق إلى الباطل ، وتقرير لما سبقت حكايته عنهم من أقوال فاسدة ، وأفعال ذميمة .
والضمير في قوله { اتخذوا } يعود إلى الفريقين اللذين حكت الآية السابقة ما قالوه من باطل وبهتان .
والأحبار : علماء اليهود جمع حبر ، بكسر الحاء وفتحها - وهو الذي يحسن القول ويتقنه ، مأخوذ من التحبير بمعنى التحسين والتزيين ، ومنه ثوب محبر أى جمع الزينة والحسن ، والرهبان : علماء النصارى جمع راهب وهو الزاهد في متع الدنيا ، المنعزل عن الناس مأخوذ من الرهبة بمعنى الخشية والخوف من الله - تعالى .
والمراد باتخاذهم لأحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله ، أنهم أطاعوهم فيها أحلوه لهم ، وفيما حرموه عليهم ، ولو كان هذا التحليل والتحريم مخالفاً لشرع الله .
وهذا التفسير مأثور " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد روى الإِمام أحمد والترمذى وابن جرير من طرق عن عدى بن حاتم أنه لما بلغته دعوة رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فر إلى الشام : وكان قد تنصر في الجاهلية ، فاسرت أخته وجماعة من قومها ، ثم مَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أخته وأعطاها . فرجعت إلى أخيها ، فرغبته في الإِسلام وفى القدوم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقدم عدى المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائى المشهور بالكرم فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفى عنق عدى صليب من فضة ، وكان الرسول يقرأ هذه الآية { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله . . . } " .
قال عدى : فقت ، إنهم لم يعبدوهم ، فقال ، بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم .
قال ابن كثير : وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير الآية : أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .
وقال السدى : استنصحوا الرجال ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم .
وقال الآلوسى : وقيل اتخاذهم أرباباً بالسجود لهم ونحوه مما لا يصلح إلا لله ، تعالى ، وحينئذ فلا مجاز ، إلا أنه لا مقال لأحد بعد صحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والآية ناعية على كثير من الفرق الضالة الذين تركوا كتاب الله وسنة رسوله ، لكلام علمائهم ورؤسائهم ، والحق أحق بالاتباع ، فمتى ظهر الحق فعلى المسلم اتابعه وإن أخطأه اجتهاد مقلده .
وقوله : { والمسيح ابن مَرْيَمَ } معطوف على قوله { أَحْبَارَهُمْ } والمفعول الثانى بالنسبة إليه محذوف أى : اتخذوه رباً وإلهاً .
قال صاحب المنار ما ملخصه : جمع - سبحانه . بين اليهود والنصارى في اتخاذ رجال دينهم أربابا بأن أعطوهم حتى التشريع فيهم : وذكر بعد ذلك ما انفرد به النصارى دون اليهود من اتخاذهم المسيح ربا وإلها يعبدونه واليهود لم يعبدوا عزيرا ، ولم يؤثر عمن قال منهم إنه ابن الله ، أنهم عنوا ما يعنيه النصارى من قولهم في المسيح : إنه هو الله الخالق المدبر لأمور العباد .
وقوله : { وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } جملة حالية أى : اتخذ هؤلاء المفترون على الله الكذب من اليهود والنصارى أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، بأن أطاعوهم فيما يحلونه لهم وفيا يحرمونه عليهم ولو كان مخالفاً لشرع الله ؛ وكذلك اتخذ النصارى المسيح ابن مريم رباً وإلهاً .
والحال أنهم جميعاً ما أمروا على ألسنة رسلهم إلا بعبادة الله وحده ، فهو المعبود الذي لا تعنو الوجوه إلا له ، ولا يكون الاعتماد إلا عليه ، وكل ما سواه فهو مخلوق له .
وقوله : { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } صفة ثانية لقوله { إلها } . أو هو استئناف بيانى لتعليل الأمر بعبادة الله وحده ، وأنه - سبحانه - هو المستحق لذلك شرعا وعقلا .
وقوله : { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } تنزيه له عن الشرك والشركاء إثر الأمر بإخلاص العبادة له .
أى : تنزه الله - عز وجل - وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد ، فهو رب العالمين ، وخالق الخلائق أجمعين . .
قال صاحب الظلال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : ومن النص القرآنى الواضح الدلالة ، ومن تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للآية وهو فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار وهى : أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أربابا بمعنى الاعقاد في ألوهيتهم ، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم . . ومع هذا فقد حكم الله ، سبحانه ، عليهم بالشرك في هذه الآية ، وبالكفر في آية تالية في السياق لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها - فهذا وحده دون الاعتقاد والشعائر يكفى لاعتبار من يفعله مشركا بالله ، الشرك الى يخرجه من عداد المؤمنين ، ويدخله في عداد الكافرين .
إن النص القرآنى يسوى في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، وبيان النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاد وقدموا إليه الشعائر في العبادة .
ثم ينتقل السياق القرآني إلى صفحة أخرى من صحائف الانحراف الذي عليه أهل الكتاب ؛ تتمثل في هذه المرة لا في القول والاعتقاد وحدهما ؛ ولكن كذلك في الواقع القائم على الاعتقاد الفاسد :
( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه والمسيح ابن مريم . وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ، لا إله إلا هو ، سبحانه عما يشركون ) . .
وفي هذه الآية استمرار في وجهة السياق في هذا المقطع من السورة . من إزالة الشبهة في أن هؤلاء أهل كتاب . . فهم إذن على دين اللّه . . فهي تقرر أنهم لم يعودوا على دين اللّه ، بشهادة واقعهم - بعد شهادة اعتقادهم - وأنهم أمروا بأن يعبدوا اللّه وحده ، فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه - كما اتخذوا المسيح ابن مريم رباً - وأن هذا منهم شرك باللّه . . تعالى اللّه عن شركهم . . فهم إذن ليسوا مؤمنين باللّه اعتقاداً وتصورا ؛ كما أنهم لا يدينون دين الحق واقعاً وعملاً .
وقبل أن نقول : كيف اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً ، نحب أن نعرض الروايات الصحيحة التي تضمنت تفسير رسول اللّه - [ ص ] - للآية . وهو فصل الخطاب .
الأحبار : جمع حَبر أو حِبر بفتح الحاء أو بكسرها ، وهو العالم من أهل الكتاب وكثر إطلاقه على علماء اليهود . . والرهبان : جمع راهب ، وهو عند النصارى المتبتل المنقطع للعبادة ؛ وهو عادة لا يتزوج ، ولا يزاول الكسب ، ولا يتكلف للمعاش .
وفي " الدر المنثور " . . روى الترمذي [ وحسنه ] وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في سننه وغيرهم عن عدي بن حاتم - رضي اللّه عنه - قال : أتيت النبي - [ ص ] - وهو يقرأ في سورة براءة : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه )فقال : " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه . وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه " .
وفي تفسير ابن كثير : وروى الإمام أحمد والترمذي وابن جرير - من طرق - عن عدي بن حاتم - رضي اللّه عنه - أنه لما بلغته دعوة رسول اللّه - [ ص ] - فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه . ثم منّ رسول اللّه - [ ص ] - على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام ، وفي القدوم على رسول اللّه - [ ص ] - فقدم عدي المدينة - وكان رئيساً في قومه طيئ وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم - فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول اللّه - [ ص ] - وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه )قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : " بلى ! إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم : فذلك عبادتهم إياهم . . . "
وقال السدي : استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم . ولهذا قال تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً )أي الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله فهو الحلال ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ .
" الأكثرون من المفسرين قالوا : ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا أنهم آلهة العالم . بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم " . .
ومن النص القرآني الواضح الدلالة ؛ ومن تفسير رسول اللّه - [ ص ] - وهو فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار .
أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول اللّه - [ ص ] - فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم . . ومع هذا فقد حكم اللّه - سبحانه - عليهم بالشرك في هذه الآية - وبالكفر في آية تالية في السياق - لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها . . فهذا وحده - دون الاعتقاد والشرائع - يكفي لاعتبار من يفعله مشركا بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين .
أن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقادا وقدموا إليه الشعائر في العبادة فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركا بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين . .
أن الشرك باللّه يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير اللّه من عباده ؛ ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته ؛ ولا تقديم الشعائر التعبدية له . . كما هو واضح من الفقرة السابقة . . ولكنا إنما نزيدها هنا بيانا
وهذه الحقائق - وإن كان المقصود الأول بها في السياق هو مواجهة الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك من التردد والتهيب للمعركة مع الروم ، وجلاء شبهة أنهم مؤمنون باللّه لأنهم أهل كتاب - هي كذلك حقائق مطلقة تفيدنا في تقرير " حقيقة الدين " عامة . .
إن دين الحق الذي لا يقبل اللّه من الناس كلهم ديناً غيره هو " الإسلام " . . والإسلام لا يقوم إلا باتباع اللّه وحده في الشريعة - بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده - فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة اللّه صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون باللّه - مهما كانت دعواهم في الإيمان - لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون اللّه ، بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم ، لا طاقة لهم بدفعه ، وأنهم لا يقرون هذا الافتئات على اللّه . .
إن مصطلح " الدين " قد انحسر في نفوس الناس اليوم ، حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير ، وشعائر تعبدية تقام ! وهذا ما كان عليه اليهود الذين يقرر هذا النص المحكم - ويقرر تفسير رسول اللّه [ ص ]أنهم لم يكونوا يؤمنون باللّه ، وأنهم أشركوا به ، وأنهم خالفوا عن أمره بألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً ، وأنهم اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون اللّه .
إن المعنى الأول للدين هو الدينونة - أي الخضوع والاستسلام والاتباع - وهذا يتجلي في اتباع الشرائع كما يتجلي في تقديم الشعائر . والأمر جد لا يقبل هذا التميع في اعتبار من يتبعون شرائع غير اللّه - دون إنكار منهم يثبتون به عدم الرضا عن الافتئات على سلطان اللّه - مؤمنين باللّه ، مسلمين ، لمجرد أنهم يعتقدون بألوهية اللّه سبحانه ويقدمون له وحده الشعائر . . وهذا التميع هو أخطر ما يعانيه هذا الدين في هذه الحقبة من التاريخ ؛ وهو أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه ؛ الذين يحرصون على تثبيت لافتة " الإسلام " على أوضاع ، وعلى أشخاص ، يقرر الله سبحانه في أمثالهم أنهم مشركون لا يدينون دين الحق ، وأنهم يتخذون أربابا من دون الله . . وإذا كان أعداء هذا الدين يحرصون على تثبيت لافته الإسلام على تلك الأوضاع وهؤلاء الأشخاص ؛ فواجب حماة هذا الدين أن ينزعوا هذه اللافتات الخادعة ؛ وأن يكشفوا ما تحتها من شرك وكفر واتخاذ أرباب من دون اللّه . . ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) .
[ وقوله ]{[13387]} { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } روى الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن جرير من طرق ، عن عدي بن حاتم ، رضي الله عنه ، أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَّ إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثمَّ منَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها ، ورَغَّبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدم عَدِيّ المدينة ، وكان رئيسا في قومه طيئ ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدَّث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عَدِيّ صليب من فضة ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } قال : فقلت : إنهم لم يعبدوهم . فقال : " بلى ، إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا{[13388]} لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم " . وقال{[13389]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عدي ، ما تقول ؟ أيُفرّك{[13390]} أن يقال : الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من الله ؟ ما يُفرك ؟ أيفرّك أن يقال{[13391]} لا إله إلا الله ؟ فهل تعلم من إله إلا الله " ؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم ، وشهد شهادة الحق ، قال : فلقد رأيتُ وجهه استبشر ثم قال : " إن اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون " {[13392]}
وهكذا قال حذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وغيرهما في تفسير : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا .
وقال السدي : استنصحوا الرجال ، وتركوا{[13393]} كتاب الله وراء ظهورهم .
ولهذا قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا } أي : الذي إذا حرم الشيء فهو الحرام ، وما حلله حل ، وما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ .
{ لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي : تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه .
{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله أو بالسجود لهم . { والمسيح ابن مريم } بأن جعلوه ابنا لله . { وما أُمروا } أي وما أمر المتخذون أو المتخذون أربابا فيكون كالدليل على بطلان الاتخاذ . { إلا ليعبدوا } ليطيعوا . { إلها واحدا } وهو الله تعالى وأما طاعة الرسول وسائر من أمر الله بطاعته فهو في الحقيقة طاعة لله . { لا إله إلا هو } صفة ثانية أو استئناف مقرر للتوحيد . { سبحانه عما يشركون } تنزيه له عن أن يكون له شريك .
واحد «الأحبار » حِبر بكسر الحاء ، ويقال حَبر بفتح الحاء والأول أفصح ، ومنه مداد الحبر ، والحَبر بالفتح : العالم ، وقال يونس بن حبيب : لم أسمعه إلا بكسر الحاء ، وقال الفراء : سمعت فتح الحاء وكسرها في العالم ، وقال ابن السكيت الحِبر : بالكسر المداد والحَبر بالفتح العالم ، و «الرهبان » جمع راهب وهو الخائف من الرهبة ، وسماهم { أرباباً } وهم لا يعبدوهم لكن من حيث تلقوا الحلال والحرام من جهتهم ، وهو أمر لا يتلقى إلا من جهة الله عز وجل ونحو هذا قال ابن عباس وحذيفة بن اليمان وأبو العالية ، وحكي الطبري أن عدي بن حاتم قال : «جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب ذهب ، فقال : يا عدي اطرح هذا الصليب من عنقك ، فسمعته يقرأ { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } ، فقلت يا رسول الله وكيف ولم نعبدهم ؟ فقال أليس تستحلون ما أحلوا وتحرمون ما حرموا ؟ قلت نعم . قال فذاك »{[5613]} ، { والمسيح } عطف على الأحبار والرهبان ، و { سبحانه } نصب على المصدر والعامل فيه فعل من المعنى لأنه ليس من لفظ سبحان فعل ، والتقدير أنزهه تنزيهاً ، فمعنى { سبحانه } تنزيهاً له ، واحتج من يقول إن أهل الكتاب مشركون بقوله تعالى { عما يشركون } ، والغير يقول إن اتخاذ هؤلاء الأرباب ضرب ما من الإشراك وقد يقال في المرائي إنه أشرك وفي ذلك آثار .
الجملة تقرير لمضمون جملة { وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله } [ التوبة : 30 ] ليُبنى على التقرير زيادة التشنيع بقوله : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً } إلخ ، فوزان هذه الجملة وزان جملة { اتخذوه وكانوا ظالمين } [ الأعراف : 148 ] بعد جملة { واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار } [ الأعراف : 148 ] . والضمير لليهود والنصارى .
والأحبار جمع حَبَر بفتح الحاء وهو العالِم من علماء اليهود .
الرهبان اسم جمع لراهب وهو التقي المنقطع لعبادة الله من أهل دين النصرانية ، وإنّما خص الحَبر بعالمِ اليهود لأنّ عظماء دين اليهودية يشتغلون بتحرير علوم شريعة التوراة فهم علماء في الدين وخصّ الراهب بعظيم دين النصرانية لأنّ دين النصارى قائم على أصل الزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة .
ومعنى اتّخاذهم هؤلاء أرباباً أنّ اليهود ادّعوا لبعضهم بنوةَ الله تعالى وذلك تأليه ، وأنّ النصارى أشدّ منهم في ذلك إذ كانوا يسجدون لصور عظماء ملّتهم مثل صورة مريم ، وصور الحواريين ، وصورة يحيى بن زكرياء ، والسجود من شعار الربوبية ، وكانوا يستنصرون بهم في حروبهم ولا يستنصرون بالله .
وهذا حال كثير من طوائفهم وفرقهم ، ولأنّهم كانوا يأخذون بأقْوال أحبارهم ورهبانهم المخالفة لما هو معلوم بالضرورة أنّه من الدين ، فكانوا يعتقدون أنّ أحبارهم ورهبانهم يحلّلون ما حرم الله ، ويحرّمون ما أحلّ الله ، وهذا مطرد في جميع أهل الدينين ، ولذلك أفحم به النبي صلى الله عليه وسلم عدياً بنَ حاتم لمّا وفد عليه قُبيل إسلامه لما سمع قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } وقال عدي : لسنا نعبدهم فقال : « أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه فقلت : بلى قال : فتلك عبادتهم » فحصل من مجموع أقوال اليهود والنصارى أنّهم جعلوا لبعض أحبارهم ورهبانهم مرتبة الربوبية في اعتقادهم فكانت الشناعة لازمة للأمتين ولو كان من بينهم من لم يقل بمقالهم كما زعم عدي بن حاتم فإنّ الأمّة تؤاخذ بما يصدر من أفرادها إذا أقرته ولم تنكره ، ومعنى اتّخاذهم أرباباً من دون الله أنّهم اتّخذوهم أرباباً دون أن يفردوا الله بالوحدانية ، وتخصيص المسيح بالذكر لأنّ تأليه النصارى إياه أشنع وأشهر .
وجملة { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحداً } في موضع الحال من ضمير { اتخذوا أحبارهم } ، وهي محطّ زيادة التشنيع عليهم وإنكار صنيعهم بأنّهم لا عذر لهم فيما زعموا ، لأنّ وصايا كتب الملّتين طافحة بالتحذير من عبادة المخلوقات ومن إشراكها في خصائص الإلهية .
وجملة { لا إله إلّا هو } صفة ثانية ل { إلهاً واحداً } .
وجملة { سبحانه عما يشركون } مستأنفة لقصد التنزيه والتبرّىء ممّا افتروا على الله تعالى ، ولذلك سمي ذلك إشراكاً .