البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُوٓاْ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗاۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (31)

{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم } تعدت اتخذ هنا المفعولين ، والضمير عائد على اليهود والنصارى .

قال حذيفة : لم يعبدوهم ولكنْ أحلوا لهم الحرام فأحلوه ، وحرموا عليهم الحلال فحرموه ، وقد جاء هذا مرفوعاً في الترمذي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم .

وقيل : كانوا يسجدون لهم كما يسجدون لله ، والسجود لا يكون إلا لله ، فأطلق عليهم ذلك مجازاً .

وقيل : علم سبحانه أنهم يعتقدون الحلول ، وأنه سبحانه تجلى في بواطنهم فيسجدون له معتقدين أنه لله الذي حل فيهم وتجلى في سرائرهم ، فهؤلاء اتخذوهم أرباباً حقيقة .

ومذهب الحلول فشا في هذه الأمة كثيراً ، وقالوا بالاتحاد .

وأكثر ما فشا في مشائخ الصوفية والفقراء في وقتنا هذا ، وقد رأيت منهم جماعة يزعمون أنهم أكابر .

وحكى أبو عبد الله الرازي أنه كان فاشياً في زمانه ، حكاه في تفسيره عن بعض المروزيين كان يقول لأصحابه : أنتم عبيدي ، وإذا خلا ببعض الحمقا من أتباعه ادعى الآلهية .

وإذا كان هذا مشاهداً في هذه الأمة ، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السابقة انتهى وهو منقول من كتاب التحرير والتحبير ، وقد صنف شيخنا المحدث المتصوّف قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن القسطلاني كتاباً في هذه الطائفة ، فذكر فيهم الحسين بن منصور الحلاج ، وأبا عبد الله الشوذي كان بتلمسان ، وابراهيم بن يوسف بن محمد بن دهان عرف بابن المرأة ، وأبا عبد الله بن أحلى المتأمر بلورقة ، وأبا عبد الله بن العربي الطائي ، وعمر بن علي بن الفارض ، وعبد الحق بن سبعين ، وأبا الحسن الششتري من أصحابه ، وابن مطرف الأعمى من أصحاب ابن أحلى ، والصفيفير من أصحابه أيضاً ، والعفيف التلمساني .

وذكر في كتابه من أحوالهم وكلامهم وأشعارهم ما يدل على هذا المذهب .

وقتل السلطان أبو عبد الله بن الأحمر ملك الأندلس الصفيفير بغرناطة وأنابها ، وقد رأيت العفيف الكوفي وأنشدني من شعره ، وكان يتكتم هذا المذهب .

وكان بو عبد الله الأيكي شيخ خانكاه سعيد السعداء مخالطاً له خلطة كثيرة ، وكان متهماً بهذا المذهب ، وخرج التلمساني من القاهرة هارباً إلى الشام من القتل على الزندقة .

وأما ملوك العبيدتين بالمغرب ومصر فإن أتباعهم يعتقدون فيهم الإلهية ، وأولهم عبيد الله المتلقب بالمهدي ، وأخرهم سليمان المتلقب بالعاضد .

والأحبار علماء اليهود ، والرهبان عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا وانقطعوا عن الخلق في الصوامع .

أخبر عن المجموع ، وعاد كل ما يناسبه .

أي : اتخذ اليهود أحبارهم ، والنصارى رهبانهم .

والمسيح ابن مريم عطف على رهبانهم .

{ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا ، أي : أمروا في التوراة والإنجيل على ألسنة أنبيائهم .

وقيل : في القرآن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : في الكتب الثلاثة .

وقيل : في الكتب المنزلة ، وعلى لسان جميع الأنبياء .

وقال الزمخشري : أمرتهم بذلك أدلة العقل والنصوص في الإنجيل والمسيح عليه السلام ، أنه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنة .

وقيل : الضمير عائد على الأحبار والرهبان المتخذين أرباباً أي : وما أمر هؤلاء إلا ليعبدوا الله ويوحدوه ، فكيف يصح أن يكونوا أرباباً وهم مأمورون مستعبدون ؟ وفي قوله : عما يشركون ، دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى .