التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُوٓاْ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗاۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ} (31)

قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم } الأحبار ، جمع حبر بالفتح والكسر . وهم علماء اليهود ، وهو يطلق على العالم سواء كان مسلما أو ذميا ؛ فقد كان يقال لابن عباس : الحبر . أما الرهبان : فهم علماء النصارى من أصحاب الصوامع . وهم جمع ومفرد راهب ، وهو مأخوذ من الرهبة ؛ أي الخوف ، وكانوا لذلك يتخلون من أشغال الدنيا ويتركون ملاذها وشهواتها ، ويؤثرون الزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها ؛ حتى إن منهم من كان يختصي كيلا يرغب في النساء . ومن هنا حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من مثل هذا السلوك فقال ( لا رهبانية في الإسلام ) .

لقد اتخذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أربابا من دون الله وكذل المسيح . أي أطاعوهم في تحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرمه الله . وهذا هو التفسير المأثور . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روي الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم ( رضي الله عنه ) أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي إلى المدينة وكان رئيسا في قومه طيئ ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم . فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } فقلت أي –عدي- : غنهم لم يعبدوها . فقال صلى الله عليه وسلم : ( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا عدي ما تقول ؟ أيضرك أن يقال الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا اكبر من الله . ما يضرك أيضرك أن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم إلها غير الله ؟ ) ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق . قال : فلقد رأيت وجهه استبشر ثم قال : ( إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ) وهكذا قال حذيفة ابن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } غنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا{[1759]} .

قوله : { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } أي أن هؤلاء جميعا أمروا في الكتب السماوية المنزلة من السماء على لسان أنبيائهم أن لا يعبدوا إلا الله وحده ؛ فهو الله ذو الجلال والكبرياء يشهد أنه ليس من إله معبود سوى الله { سبحانه عما يشركون } أي تعالى الله وتقدس وتنزه عما يختلقون من الشركاء والنظراء والأولاد .

على أنه يستفاد من هذه الآية فداحة العصيان الشنيع وفظاعة النكر الموبق في الركون إلى الساسة والعادة وأولي الأمر في التشريع للناس ؛ إذ يحلون لهم ما حرمه الله عليهم ، أو يحرمون ما أحله الله لهم ولذلك في معزل عن دين الله وشرعه بل تبعا لما تجده أهواؤهم وأمزجتهم . حتى إذا أطاعهم الناس واتبعوهم فيما شرعوه لهم صاروا عبدة لهم . فما يطيع المرء أحدا من البشر في شرع من عنده مخالف لشرع الله فيما احل أو حرم إلا كان عابدا له من دون الله . وأيما امرئ من البشر شرع للناس تشريعا فيه تحليل لما حرمه الله ، أو تحريم لما أحل الله ؛ فقد اصطنع لنفسه خصيصة من خصائص الإلهية التي لا تنبغي لأحد سوى الله . وما الناس الطائعون الراضون بعد ذلك إلا المشركون الذين يعبدون مع الله آلهة مشرعة أخرى من البشر{[1760]} .

ويستبين بذلك مدى الجريمة البالغة التي يتلبس بها المشرعون للناس من عند أنفسهم مما لم يأذن به الله ، ومما لم ينزل الله به سلطانا . بل يصطنعون للناس تشريعا مخالفا لمنهج الله سواء في التحليل أو التحريم ، فهم لذلك يحلون ما حرم الله ، ويحرمون ما أحل الله . لا جرم أن هذه فاقرة فظيعة يسقط فيها الساسة والقادة وأولوا الأمر الذين يفتاتون على الله بما شرعوه للناس . وما شرعوه لهم مخالف لمنهج الله . وذلكم غاية العصيان والكفران .

وكذلك الرعاع من التابعين الذين يهرعون لطاعة الحاكم في كل ما أمر من غير تمحيص لما هو مخالف لشرع الله أو غير مخالف . منهم لا يعبأون عن كانت أوامر الحاكم مغايرة لشرع الله . وإنما يخفون سراعا وفي غاية الاستحقاق والرعونة ؛ ليطيعوا الحاكم طمعا في بلوغ مأرب مهين مسف ، أو لمجرد النفاق والمداهنة والخفة وخواء الضمير . لا جرم أن هؤلاء واقعون في مستنقع الشرك الذي غاص فيه سائر الكافرين والمنافقين والملحدين وعباد الملوك ولسلاطين .

ولا يظنن جاهل من الجاهلين أنه بصلاته وزكاته وصيامه ناج من الانهيار في الهاوية ليكون في زمرة المشركين الذين عبدوا الرؤساء والحاكمين ؛ إذ أطاعوهم عن رضى ومودة .


[1759]:تفسير ابن كثير جـ 2 ص 348، 349.
[1760]:تفسير ابن كثير جـ 2 ص 349 والبحر المحيط جـ 5 ص 31- 33 وروح المعاني جـ 5 ص 83- 85 وتفسير الطبري جـ 10 ص 148، 149.