تحدثت هذه السورة الكريمة عن إنزال القرآن من عند الله ، ووجوب الإيمان به وبمحمد صلى الله عليه وسلم والتصديق بالقيامة ، وعنيت بالتنبيه إلى الاعتبار بما أصاب السابقين الذين عصوا الله ورسله ، ودعت إلى العناية ببر الوالدين ورعاية حقوقهما ، وعرضت لقصة نفر من الجن استمعوا إلى القرآن الكريم ، وتواصوا بالإنصات له ، فوجدوه مصدقا لما جاء به الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، فآمنوا به ، ودعوا قومهم إلى ذلك ، وأنهت الحديث بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على تكذيب قومه والتأسي في ذلك بما احتمله أولو العزم من الرسل قبله .
1- افتتحت هذه السورة ببعض الحروف على طريقة القرآن الكريم في افتتاح طائفة من سوره بالحروف .
1- سورة " الأحقاف " هي السورة السادسة والأربعون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول فقد كان بعد سورة " الجاثية " .
والذي يراجع ما كتبه العلماء في ترتيب سور القرآن الكريم ، يجد أن الحواميم قد نزلت مرتبة كترتيبها في المصحف .
2- وسورة " الأحقاف " عدد آياتها خمس وثلاثون آية في المصحف الكوفي ، وأربع وثلاثون آية في غيره ، وهي من السور المكية .
قال الآلوسي : أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة ، فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء . .
واستثنى بعضهم قوله –تعالى- : [ قل أرأيتم إن كان من عند الله ، وكفرتم به ، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ] .
واستثنى بعضهم قوله –تعالى- : [ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي . . . ] إلى قوله –تعالى- : [ إنهم كانوا خاسرين ] .
3- وقد افتتحت السورة الكريمة بالثناء على القرآن الكريم ، وبيان جانب من مظاهر قدرة الله –تعالى- ، وبتلقين النبي صلى الله عليه وسلم الجواب السديد الذي يرد به على المشركين ، فقال –تعالى- : [ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله . أروني ماذا خلقوا من الأرض ، أم لهم شرك في السموات ، ائتوني بكتاب من قبل هذا ، أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ] .
ثم تحكي السورة الكريمة بعض الأعذار الزائفة التي اعتذر بها الكافرون وردت عليهم بما يبطلها ، فقال –تعالى- : [ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم . . . ] .
4- ثم انتقلت السورة إلى الحديث عن حسن عاقبة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، وعن الوصايا الحكيمة التي أوصى الله –تعالى- بها الأبناء نحو آبائهم ، وعن حسن عاقبة الذين يعملون بتلك الوصايا ، فقال –تعالى- : [ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ، ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ] .
كما بينت السورة الكريمة سوء عاقبة الكافرين ، الذين أعرضوا عن دعوة الحق ، قال –تعالى- : [ ويوم يعرض الذين كفروا على النار ، أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ، واستمتعتم بها ، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ، وبما كنتم تفسقون ] .
5- ثم حذرت السورة المشركين من الإصرار على شركهم ، وذكرتهم بما حل بالمشركين من قبلهم كقوم عاد وثمود . . . وبينت لهم أن هؤلاء الكافرين لم تغن عنهم أموالهم ولا قوتهم شيئا ، عندما حاق بهم عذاب الله –تعالى- ، فقال –سبحانه- : [ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ، وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء ، إذ كانوا يجحدون بآيات الله ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون . ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى ، وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ] .
6- ثم أخذت السورة الكريمة في أواخرها ، في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إدخال السرور على قلبه بأن ذكرته بحضور نفر من الجن إليه ، للاستماع إلى القرآن الكريم ، وكيف أنهم عندما استمعوا إليه أوصى بعضهم بعضا بالإنصات وحسن الاستماع ، وكيف أنهم عندما عادوا إلى قومهم دعوهم إلى الإيمان بالحق الذي استمعوا إليه ، وبالنبي الذي جاء به ، فقال –تعالى- حكاية عنهم : [ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ] .
ثم ختمت السورة الكريمة بأمره صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى قومه ، فقال –تعالى- :
[ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم . كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، بلاغ ، فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ] .
7- والمتأمل في سورة " الأحقاف " يراها ، قد أقامت الأدلة على وحدانية الله –تعالى- ، وعلى كمال قدرته . وعلى صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن هذا القرآن من عند الله ، وعلى أن يوم القيامة حق .
أقامت الأدلة على كل ذلك ، بأبلغ الأساليب وأحكمها ، ومن ذلك أنها ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله –تعالى- في خلقه ، كما ذكرت شهادة شاهد من بني إسرائيل على أن الإسلام هو الدين الحق . كما طوفت بالناس في أعماق التاريخ لتطلعهم على مصارع الغابرين ، الذين أعرضوا عن دعوة الحق ، كما عقدت عدة مقارنات بين مصير الأخيار ومصير الأشرار . .
وبذلك تكون السورة قد ساقت من الأدلة ما فيه الكفاية والإقناع لأولي الألباب ، على أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . .
سورة " الأحقاف " من السور التى افتتحت ببعض الحروف الهجائية ، وأقرب الأقوال إلى الصواب فى معناها أن يقال : إن هذه الحروف المقطعة قد وردت فى افتتاح بعض السور ، للإِشعار بأن هذا القرآن الذى تحدى به الله - تعالى - المشركين ، هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التى يعرفونها ، ويقدرون على تأليف الكلام منها ، فإذا عجزوا عن الإِتيان بسورة من مثله ، فذلك لبلوغه فى الفصاحة والحكمة مرتبةً فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة .
وفضلا عن كل ذلك فإن تصدير بعض السور ، يمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إى الإِنصات والتدبر ، لأنه يطرق أسماعهم فى أول التلاوة بألفاظ غير مألوفة فى مجارى كلامهم .
وذلك مما يلفت أنظارهم ، ليتبينوا ما يراد منها ، فيسمعوا حكما وحججا ومواعظ من شأنها أنها تهديهم إلى الحق ، لو كانوا يعقلون .
وقد سبق أن بينا - بشئ من التفصيل - آراء العلماء فى هذه الحروف المقطعة
سورة الأحقاف مكية وآيتها خمس وثلاثون :
هذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة . . قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه . والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] رسول سبقته الرسل ، أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب . والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة .
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله . ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا ، وظل يتكئ عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية . ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه ، وبعثة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء . . هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها ، وترتبط به أوثق ارتباط ؛ فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان .
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل ؛ وتوقع فيها على كل وتر ؛ وتعرضها في مجالات شتى ، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية . كما أنها تجعلها قضية الوجود كله - لا قضية البشر وحدهم - فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه . وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا . سواء بسواء .
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض ، وفي مشاهد القيامة في الآخرة . كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة . وتجعل من السماوات والأرض كتابا ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء .
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط مترابطة ، كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع .
يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة معه بالحرفين : حا . ميم . كما بدأت السور الست قبلها . تليهما الإشارة الى كتاب القرآن والوحي به من عند الله : ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) . . وعقبها مباشرة الإشارة الى كتاب الكون ، وقيامه على الحق ، وعلى التقدير والتدبير : ( ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى ) . . فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير : ( والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) .
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون ، ولا يستند الى حق من القول ، ولا مأثور من العلم : ( قل : أرأيتم ما تدعون من دون الله ? أروني ماذا خلقوا من الأرض ? أم لهم شرك في السماوات ? ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ) . . ويندد بضلال من يدعو من دون الله من لا يسمع لعابده ولا يستجيب . ثم هو يخاصمه يوم القيامة ويبرأ من عبادته في اليوم العصيب !
ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم له : ( هذا سحر مبين ) . . وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه . ويلقن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أن يرد عليهم الرد اللائق بالنبوة ، النابع من مخافة الله وتقواه ، وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة : ( قل : إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا . هو أعلم بما تفيضون فيه . كفى به شهيدا بيني وبينكم ، وهو الغفور الرحيم . قل : ما كنت بدعا من الرسل ، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ، إن أتبع إلا ما يوحى إلي ، وما أنا إلا نذير مبين ) . . ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى - عليه السلام - : ( فآمن واستكبرتم ) . . ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين : ( إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) . .
ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الإصرار ، وهم يقولون عن المؤمنين : ( لو كان خيرا ما سبقونا إليه . . ) ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر : ( وإذ لم يهتدوا به فسيقولون : هذا إفك قديم ! . )
ويشير إلى كتاب موسى من قبله ، وإلى تصديق هذا القرآن له ، وإلى وظيفته ومهمته : ( لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ) . .
ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريق : ( إن الذين قالوا : ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ) . .
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية : المستقيمة والمنحرفة ، في مواجهة قضية العقيدة . ويبدأ معهما من النشأة الأولى ، وهما في أحضان والديهم . ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار . فأما الأول فشاعر بنعمة الله بار بوالديه ، راغب في الوفاء بواجب الشكر ، تائب ضارع مستسلم منيب : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ) . . وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه ، وهو جاحد منكر للآخرة ، وهما به ضيقان متعبان : ( أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس ، إنهم كانوا خاسرين ) . .
ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريق : ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار . أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها ، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ، وبما كنتم تفسقون ) . .
والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد ، عندما كذبوا بالنذير . ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم ، التي توقعوا فيها الري والحياة ؛ فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار ، والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوه : ( فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا : هذا عارض ممطرنا ، بل هو ما استعجلتم به ، ريح فيها عذاب أليم ، تدمر كل شيء بأمر ربها ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ، كذلك نجزي القوم المجرمين ) . . ويلمس قلوبهم بهذا المصرع ، وهو يذكرهم بأن عادا كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروة : ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ، وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء . إذ كانوا يجحدون بآيات الله ، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون ) . . ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى ، وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم ، وظهور إفكهم وافترائهم . لعلهم يتأثرون ويرجعون . .
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن ، حين صرفهم الله لاستماعه ، فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة ، والشهادة له بأنه الحق : ( مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) . . وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان : يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ، يغفر لكم من ذنوبكم ، ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ، وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين ) . .
وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادة : ( أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى إنه على كل شيء قدير ) . .
وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار ، فيقرون بما كانوا ينكرون ، ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين !
وتختم السورة بتوجيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب ، فإنما هو أجل قصير يمهلونه ، ثم يأتيهم العذاب والهلاك : ( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار . بلاغ . فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ? ) . .
( حم . تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم . ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى ، والذين كفروا عما أنذروا معرضون ) . .
هذا هو الإيقاع الأول في مطلع السورة ؛ وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتداولها كلامهم ، والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر ، وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم . كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلو المنزل من عنده ، وكتاب الله المنظور المصنوع بيده . كتاب هذا الكون الذي تراه العيون ، وتقرؤه القلوب .
وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير . فتنزيل الكتاب ( من الله العزيز الحكيم )هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه السورة مكية، ولم يختلف منها الا في آيتين وهي قوله {قل أرأيتم إن كان من عند الله} [الأحقاف 10] الآية، وقوله: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} الآية 6، فقال بعض المفسرين هاتان آيتان مدنيتان وضعتا في سورة مكية.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
إنذار الكافرين بالدلالة على صدق الوعد في قيام الساعة اللازم للعزة والحكمة الكاشف لهما أتم كشف بما وقع الصدق في الوعد به من إهلاك المكذبين بما يضاد حال بلادهم وأنه لا يمنع من شيء من ذلك مانع لأن فاعل ذلك لا شريك له فهو المستحق للإفراد بالعبادة، وعلى ذلك دلت تسميتها بالأحقاف الدالة على هدوء الريح وسكون الجو بما دلت عليه قصة قوم هود عليه الصلاة والسلام من التوحيد وإنذارهم بالعذاب دنيا وأخرى ومن إهلاكهم وعدم إغناء ما عبدوه عنهم. ولا يصح تسميتها بهود ولا تسمية هود بالأحقاف لما ذكر من المقصود بكل منهما...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير أنها نزلت بمكة فأطلق غير واحد القول بمكيتها من غير استثناء واستثنى بعضهم قوله تعالى: {قل أرأيتم إن كان من عند الله} الآية فقد أخرج الطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك الأشجعي أنها نزلت في قصة إسلام عبد الله بن سلام وروي ذلك عن محمد بن سيرين. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن سعد ابن وقاص أنه قال: ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت {وشهد شاهد من بني إسرائيل} وفي نزولها فيه رضي الله تعالى عنه أخبار كثيرة وظاهر ذلك أنها مدنية لأن إسلامه فيها بل في الأخبار ما يدل على مدنيتها من وجه آخر وعكرمة ينكر نزولها فيه ويقول: هي مكية كما أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عنه وكذا مسروق فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام ما نزلت إلا بمكة وإنما كان إسلام ابن سلام بالمدينة وإنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلى الله عليه وسلم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة المكية تعالج قضية العقيدة.. قضية الإيمان بوحدانية الله وربوبيته المطلقة لهذا الوجود ومن فيه وما فيه. والإيمان بالوحي والرسالة وأن محمدا [صلى الله عليه وسلم] رسول سبقته الرسل، أوحي إليه بالقرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب. والإيمان بالبعث وما وراءه من حساب وجزاء على ما كان في الحياة الدنيا من عمل وكسب ومن إحسان وإساءة.
هذه الأسس الأولى التي يقيم عليها الإسلام بناءه كله. ومن ثم عالجها القرآن في كل سوره المكية علاجا أساسيا، وظل يتكئ عليها كذلك في سوره المدنية كلما هم بتوجيه أو تشريع للحياة بعد قيام الجماعة المسلمة والدولة الإسلامية. ذلك أن طبيعة هذا الدين تجعل قضية الإيمان بوحدانية الله سبحانه، وبعثة محمد [صلى الله عليه وسلم] والإيمان بالآخرة وما فيها من جزاء.. هي المحور الذي تدور عليه آدابه ونظمه وشرائعه كلها، وترتبط به أوثق ارتباط؛ فتبقى حية حارة تنبعث من تأثير دائم بذلك الإيمان.
وتسلك السورة بهذه القضية إلى القلوب كل سبيل؛ وتوقع فيها على كل وتر؛ وتعرضها في مجالات شتى، مصحوبة بمؤثرات كونية ونفسية وتاريخية. كما أنها تجعلها قضية الوجود كله -لا قضية البشر وحدهم- فتذكر طرفا من قصة الجن مع هذا القرآن كذكرها لموقف بعض بني إسرائيل منه. وتقيم من الفطرة الصادقة شاهدا كما تقيم من بعض بني إسرائيل شاهدا. سواء بسواء.
ثم هي تطوف بتلك القلوب في آفاق السماوات والأرض، وفي مشاهد القيامة في الآخرة. كما تطوف بهم في مصرع قوم هود وفي مصارع القرى حول مكة. وتجعل من السماوات والأرض كتابا ينطق بالحق كما ينطق هذا القرآن بالحق على السواء.
ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط مترابطة، كأنها شوط واحد ذو أربعة مقاطع.
يبدأ الشوط الأول وتبدأ السورة معه بالحرفين: حا. ميم. كما بدأت السور الست قبلها. تليهما الإشارة الى كتاب القرآن والوحي به من عند الله: (تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم).. وعقبها مباشرة الإشارة الى كتاب الكون، وقيامه على الحق، وعلى التقدير والتدبير: (ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى).. فيتوافى كتاب القرآن المتلو وكتاب الكون المنظور على الحق والتقدير: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون).
وبعد هذا الافتتاح القوي الجامع يأخذ في عرض قضية العقيدة مبتدئا بإنكار ما كان عليه القوم من الشرك الذي لا يقوم على أساس من واقع الكون، ولا يستند الى حق من القول، ولا مأثور من العلم: (قل: أرأيتم ما تدعون من دون الله؟ أروني ماذا خلقوا من الأرض؟ أم لهم شرك في السماوات؟ ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين).. ويندد بضلال من يدعو من دون الله من لا يسمع لعابده ولا يستجيب. ثم هو يخاصمه يوم القيامة ويبرأ من عبادته في اليوم العصيب!
ويعرض بعد هذا سوء استقبالهم للحق الذي جاءهم به محمد رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقولهم له: (هذا سحر مبين).. وترقيهم في الادعاء حتى ليزعمون أنه افتراه. ويلقن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] أن يرد عليهم الرد اللائق بالنبوة، النابع من مخافة الله وتقواه، وتفويض الأمر كله إليه في الدنيا والآخرة: (قل: إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا. هو أعلم بما تفيضون فيه. كفى به شهيدا بيني وبينكم، وهو الغفور الرحيم. قل: ما كنت بدعا من الرسل، وما أدري ما يفعل بي ولا بكم، إن أتبع إلا ما يوحى إلي، وما أنا إلا نذير مبين).. ويحاججهم بموقف بعض من اهتدى للحق من بني إسرائيل حينما رأى في القرآن مصداق ما يعرف من كتاب موسى -عليه السلام -: (فآمن واستكبرتم).. ويندد بظلمهم بالإصرار على التكذيب بعد شهادة أهل الكتاب العارفين: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين)..
ويستطرد في عرض تعلاتهم ومعاذيرهم الواهية عن هذا الإصرار، وهم يقولون عن المؤمنين: (لو كان خيرا ما سبقونا إليه..) ويكشف عن علة هذا الموقف المنكر: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون: هذا إفك قديم!.)
ويشير إلى كتاب موسى من قبله، وإلى تصديق هذا القرآن له، وإلى وظيفته ومهمته: (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين)..
ويختم هذا الشوط بتفصيل هذه البشرى لمن صدق بالله واستقام على الطريق: (إن الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون)..
ويعرض الشوط الثاني نموذجين للفطرة البشرية: المستقيمة والمنحرفة، في مواجهة قضية العقيدة. ويبدأ معهما من النشأة الأولى، وهما في أحضان والديهم. ويتابع تصرفهما عند بلوغ الرشد والتبعة والاختيار. فأما الأول فشاعر بنعمة الله بار بوالديه، راغب في الوفاء بواجب الشكر، تائب ضارع مستسلم منيب: (أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون).. وأما الآخر فعاق لوالديه كما هو عاق لربه، وهو جاحد منكر للآخرة، وهما به ضيقان متعبان: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس، إنهم كانوا خاسرين)..
ويختم هذا الشوط بمشهد سريع من مشاهد القيامة يعرض فيه مصير هذا الفريق: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار. أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها، فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وبما كنتم تفسقون)..
والشوط الثالث يرجع بهم إلى مصرع عاد، عندما كذبوا بالنذير. ويعرض من القصة حلقة الريح العقيم، التي توقعوا فيها الري والحياة؛ فإذا بها تحمل إليهم الهلاك والدمار، والعذاب الذي استعجلوا به وطلبوه: (فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا: هذا عارض ممطرنا، بل هو ما استعجلتم به، ريح فيها عذاب أليم، تدمر كل شيء بأمر ربها، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، كذلك نجزي القوم المجرمين).. ويلمس قلوبهم بهذا المصرع، وهو يذكرهم بأن عادا كانوا أشد منهم قوة وأكثر ثروة: (ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه، وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء. إذ كانوا يجحدون بآيات الله، وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون).. ويذكرهم في نهاية الشوط مصارع ما حولهم من القرى، وعجز آلهتهم المدعاة عن نصرتهم، وظهور إفكهم وافترائهم. لعلهم يتأثرون ويرجعون..
ويتناول الشوط الرابع قصة نفر من الجن مع هذا القرآن، حين صرفهم الله لاستماعه، فلم يملكوا أنفسهم من التأثر والاستجابة، والشهادة له بأنه الحق: (مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم).. وعادوا ينذرون قومهم ويحذرونهم ويدعونهم إلى الإيمان: يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به، يغفر لكم من ذنوبكم، ويجركم من عذاب أليم. ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض، وليس له من دونه أولياء، أولئك في ضلال مبين)..
وتتضمن مقالة النفر من الجن الإشارة إلى كتاب الكون المفتوح الناطق بقدرة الله على البدء والإعادة: (أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير)..
وهنا يلمس قلوبهم بمشهد الذين كفروا يوم يعرضون على النار، فيقرون بما كانوا ينكرون، ولكن حيث لا مجال لإقرار أو يقين!
وتختم السورة بتوجيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] إلى الصبر وعدم الاستعجال لهم بالعذاب، فإنما هو أجل قصير يمهلونه، ثم يأتيهم العذاب والهلاك: (فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا تستعجل لهم، كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار. بلاغ. فهل يهلك إلا القوم الفاسقون؟)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت هذه السورة {سورة الأحقاف} في جميع المصاحف وكتب السنة، ووردت تسميتها بهذا الاسم في كلام عبد الله بن عباس. روى أحمد بن حنبل بسند جيد عن ابن عباس قال أقرأني رسول الله سورة من آل حم وهي الأحقاف، وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين.
وكذلك وردت تسميتها في كلام عبد الله بن مسعود أخرج الحاكم بسند صححه عن ابن مسعود قال: أقرأني رسول الله سورة الأحقاف الحديث.
وحديث ابن عباس السابق يقتضي أنها تسمى ثلاثين إلا أن ذلك لا يختص بها قلا يعد من أسمائها. ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور ذات أكثر من اسم.
ووجه تسميتها {الأحقاف} ورود لفظ الأحقاف فيها ولم يرد في غيرها من سور القرآن.
وهي مكية قال القرطبي: باتفاق جميعهم، وفي إطلاق كثير من المفسرين. وبعض المفسرين نسبوا استثناء آيات منها الى بعض القائلين، فحكى ابن عطية استثناء آيتين هما قوله تعالى {قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به} إلى {الظالمين} فإنها أشارت إلى إسلام عبد الله بن سلام وهو إنما أسلم بعد الهجرة، وقوله {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل}. وفي الإتقان ثلاثة أقوال باستثناء آيات ثلاث منها الاثنتان اللتان ذكرهما ابن عطية والثالثة {ووصينا الإنسان بوالديه} إلى قوله {خاسرين}. وسيأتي ما يقتضي أنها نزلت بعد مضي عامين من البعثة وأسانيد جميعها متفاوتة. وأقواها ما روي في الآية الأولى منها، وسنبين ذلك عند الكلام عليها في مواضعها.
وهذه السورة معدودة الخامسة والستين في عداد نزول السور، نزلت بعد الجاثية وقبل الذاريات...
من الأغراض التي اشتملت عليها أنها افتتحت مثل سورة الجاثية بما يشير إلى إعجاز القرآن للاستدلال على أنه منزل من عند الله.
والاستدلال بإتقان خلق السماوات والأرض على التفرد بالإلهية، وعلى إثبات جزاء الأعمال.
والإشارة إلى وقوع الجزاء بعد البعث وأن هذا العالم صائر إلى فناء.
وإبطال الشركاء في الإلهية. والتدليل على خلوهم عن صفات الإلهية.
وإبطال أن يكون القرآن من صنع غير الله.
وإثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم واستشهاد الله تعالى على صدق رسالته واستشهاد شاهد بني إسرائيل وهو عبد الله بن سلام.
والثناء على الذين آمنوا بالقرآن وذكر بعض خصالهم الحميدة وما يضادها من خصال أهل الكفر وحسدهم الذي بعثهم على تكذيبه.
وذكرت معجزة إيمان الجن بالقرآن.
وختمت السورة بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأقحم في ذلك معاملة الوالدين والذرية مما هو من خلق المؤمنين، وما هو من خلق أهل الضلالة.
والعبرة بضلالهم مع ما كانوا عليه من القوة، وأن الله أخذهم بكفرهم وأهلك أمما أخرى فجعلهم عظة للمكذبين وأن جميعهم لم تغن عنهم أربابهم المكذوبة.
وقد أشبهت كثيرا من أغراض سورة الجاثية مع تفنن.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
في السورة حكاية لمواقف وأقوال الكفار وصور من الجدل والمناظرة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وردود تنديدية وحجج مفحمة في سياقها، وإنذار للكافرين، وتطمين للمؤمنين بمصائر كل منهم يوم القيامة، واستشهاد على صحة الدعوة المحمدية وصدق القرآن بالتوراة وموسى وإسلام بعض بني إسرائيل، وتنويه بالأبناء الصالحين وتنديد بالعاقّين، وتذكير بما كان من أمر عاد ورسولهم وهلاكهم، وحكاية لاستماع جماعة من الجن للقرآن وتأثرهم به وتدليل على قدرة الله على بعث الموتى...
وفصول السورة مترابطة مما فيه الدليل على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
هذه السورة من السور المكية التي تتناول أصول العقيدة الثابتة، ومنها التوحيد، الذي يعيش فيه الوجود كله حضور الله في تدبيره الشامل للكون وما فيه، ومنها الإيمان بالوحي الذي أنزله الله على رسوله بما يشتمل عليه من رسالة تخرج الناس من الظلمات إلى النور، والإيمان بالبعث الذي يلتقي عنده الناس ليواجهوا الحساب هناك، مع إطلالةٍ متحركةٍ على آفاق السماوات والأرض ومشاهد القيامة، وعلى حركة التاريخ في مصارع قوم هود، ومصارع القرى من حول مكة. ويتحرك المضمون القرآني ليناقش مسألة الشركاء الذين لم يخلقوا شيئاً ولا يملكون أيّ شيءٍ، مما لا يجعل لديهم أساساً للربوبية، كما يجعل الذين يعتقدون فيهم ذلك قوماً متخلِّفين، لا ينطلقون في عقيدتهم من كتاب أو علم، بل ينطلقون من الأوهام والخيالات الباطلة. ويقف عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ليتحدّث عن دوره وطاقته في نطاق هذا الدور، وتتوزع السورة بعد ذلك في الحديث عن كتاب موسى (عليه السلام) وعن تأثير الإيمان في السلوك الإنساني، ومنه رعاية الوالدين واحتضانهما ورحمتهما والاستجابة إلى ندائهما الإيماني الذي تصوغه اللهفة الوالديَّة والإيمان العميق.. وتنتهي السورة بالحديث عن موقف الكافرين والمستكبرين والفاسقين يوم القيامة، حيث يعرضون على النار، التي هي مصير أمثال هؤلاء.
اعلم أن نظم أول هذه السورة كنظم أول سورة الجاثية...
تفسير الجلالين للمحلي والسيوطي 911 هـ :
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا هو الإيقاع الأول في مطلع السورة؛ وهو يلمس العلاقة بين الأحرف العربية التي يتداولها كلامهم، والكتاب المصوغ من جنس هذه الأحرف على غير مثال من كلام البشر، وشهادة هذه الظاهرة بأنه تنزيل من الله العزيز الحكيم. كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المتلو المنزل من عنده، وكتاب الله المنظور المصنوع بيده. كتاب هذا الكون الذي تراه العيون، وتقرأه القلوب. وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير، فتنزيل الكتاب (من الله العزيز الحكيم) هو مظهر للقدرة وموضع للحكمة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه السورة هي آخر سورة تبدأ ب (حم) وتسمى جميعاً الحواميم...
وقد كانت لنا بحوث كثيرة حول الحروف المتقطعة بعامة، و (حم) بخاصة، في بدايات سور البقرة وآل عمران والأعراف سور الحواميم السابقة، فلا حاجة لتكرارها هنا. ونكتفي هنا بالقول بأنّ هذه الآيات التي تهزّ الأعماق، وتحرك الوجدان، والتي تضمنها القرآن الكريم بين دفتيه تتكون من حروف الهجاء البسيطة، من الألف والباء، والحاء والميم وأمثالها، وكفى بها دليلاً على عظمة الله سبحانه إذ أظهر هذا المركّب العظيم من مثل هذه المفردات البسيطة، ولو تأملنا فيه كثيراً، وفكرنا في أسراره حتى القيامة فسيبقى فيه من الأسرار الخافية الكثير الكثير...